قضايا و آراء
تساؤلات ومفارقات في فاجعة بورسعيد
تاريخ النشر : الأحد ٤ مارس ٢٠١٢
لاتزال موقعة بورسعيد عالقة بالأذهان فهي تجمع بين عناصر المأساة الاغريقية والملهاة المبكية والدم المسفوك والشباب الصريع، فلا تدري كيف نسجت خيوط التراجيديا المروعة والمؤامرة المحكمة كأنها إحدى فواجع مسرح يوسف وهبي. العجيب أن غالبية الضحايا شباب لم يبلغ معظمهم سن الحلم منهم عمر ومنهم أنس وفيهم مايكل.. الأعجب هو حرية الشباب في السفر والتنقل - من دون صحبة لأهل أو صديق أو رفيق راشد - وهم يخوضون غمار سبل المواصلات وبلوغ مدينة ساحلية حتى حطوا الرحال في رحاب المضمار الذي دارت فيه رحى المذبحة أو مستقرهم الأخير.
لقد هزتني دموع الأم الثكلى والأب المكلوم والأخ المفجوع وهم ينعون زهرة الشباب وريحانة القلوب. تصفحت برامج البث الإلكتروني فهالني بعض ملصقات مشجعي الرياضة فمنهم الصقور ومنهم النسور و بالرغم من سذاجة بعض التحليلات فإنه يبدو أن خيوط المأساة قد نسجت منذ أمد بعيد. طالعت في صحيفة الأهرام صباح الجمعة (10 فبراير 2012) مقالا للكاتب أشرف عبدالمنعم يروي وقائع عجيبة تجري منذ سنوات على شاشات التلفاز وفي ملصقات الإعلانات التي تلوث الفضاء الرحب حتى تمخضت عن الكارثة المروعة. لقد اكتشف أن شركات الأغذية والمشروبات والوجبات السريعة من مشروبات غازية ورقائق البطاطس والحلوى التي يعشقها المراهقون تروج منذ سنوات عدة لإعلانات مثيرة تستهدف الشباب الصغير السن القليل الخبرة السريع الاستجابة. كانت الإعلانات تزين لهم استهلاك الأطعمة والمشروبات التي لا تغني ولا تسمن من جوع تحت شعارات محفزة مثل (استرجل) (اكبر وسيطر) (عبر) وكلها عبارات مثيرة ذقنا مرارة أفعالها حين انطلق الشباب المبرمج يرجم قوات الأمن بالطوب ويلهبهم بالقذائف الحارقة.
كان آخر الشعارات التي تم بثها وقد أتت ثمارها (ولعها) وكم فجعتنا ألسنة اللهب وهي تأتي على تراث مصر وكنوزها بعد أن تناول الشباب رقائق البطاطس وأقراص الحلوى.
كما أننا لا ندري ما هي مكونات تلك الأطعمة والمشروبات التي يلتهمها الشباب لكننا سوف نعرف سر الخلطة بعد خراب (مالطة) بالطبع.
لقد استنكر فريق كبير من الجمهور الإعلانات العجيبة التي تروج لأفكار ظاهرها المتعة وباطنها العذاب إلا أنه لا أحد يدرك أن هذه الشعارات والحملات المخططة مثل جرس بافلوف الشهير الذي يثير الغرائز وأنها سوف تشعل ميادين القاهرة المحروسة بالحمم والقذائف ويسقط دونها صرعى وجرحى وشهداء أبرياء.
تعد مذبحة القلعة هي أشهر مذبحة مدبرة وقعت في تاريخ مصر، ففي عام 1811 كان محمد علي باشا والي مصر قد فشل في الوصول إلى تسوية مع قادة المماليك الذين كانوا يشاطرونه النفوذ في إدارة شئون البلاد فدبر لهم مذبحة تاريخية مازالت تحكيها كتب السير والروايات. لا ندري إذا كان القدر يصيبنا أم نسعى نحن إليه طائعين مختارين.
لقد تباينت التحليلات التي تروي وقائع المأساة المروعة، ولكن انقلب السحر على الساحر فتحول أبناء المدينة إلى اناس من لون آخر وسالت الدماء رخيصة بين أبناء الوطن الواحد بسبب الشحن المتواصل والدعاية المكثفة التي مهدت للقاء الفريقين فأزهقت أرواح بريئة وسقط الجرحى في بحر من الشقاء.
يتساءل العقلاء هل هناك أمل في تجفيف منابع الكراهية وإيقاف نزيف الدم الذي يسيل رخيصا من دون عناء. فلقد صرح لاعبو الأهلي بأنهم لن يعودوا لممارسة رياضتهم المحبوبة التي حازوا بسببها لقب (لاعبي نادي القرن في افريقيا) إلا بعد أن يتم الثأر لضحايا مضمار بورسعيد.
وهي دعوة جميلة تردنا إلى موقعة (بدر) وسلسلة الوقائع التاريخية الشهيرة التي تجلت في حرب البسوس. وحتى تكتمل خيوط المأساة فلقد عبر فريق موسيقي عن إقامة حفل لتأبين ضحايا المباراة وهو مقصد نبيل إلا أن اسم الفريق الموسيقي يبعث الخوف في النفوس حين علمت أنه (esod revo جرعة مفرطة).
دعونا نشكر شركات الأغذية العالمية ورواد الدعاية والإعلان الذين نجحوا في تجييش فتية لم يبلغوا سن الحلم لأن يسفكوا دماءهم بأيديهم ويلقوا بكرات اللهب كلما تذوقوا رقائق البطاطس ويدعوا إلى العصيان المدني وهم لم يعملوا يوما واحدا حتى الآن.