يوميات سياسية
ثروت عكاشة فارس الثقافة
تاريخ النشر : الاثنين ٥ مارس ٢٠١٢
السيد زهره
قبل ايام، رحل عن عالمنا الدكتور ثروت عكاشة، وزير الثقافة المصري في عهد الزعيم الراحل جمال عبدالناصر.
مكانة ثروت عكاشة في التاريخ ليست مجرد انه كان وزيرا للثقافة. مكانته اكبر من هذا بكثير جدا. استطاع ان يخلد اسمه الى الابد في تاريخ الثقافة المصرية والعربية. تحقق هذا عبر انجازات لا سابق لها، ولا لاحق لها، بالمعنى الحرفي للكلمة.
قبل وبعد رحيله اطلق مثقفون مصريون عليه ألقابا كثيرة. اطلقوا عليه «بناء الثقافة المصرية» و«الأب الروحي للثقافة المصرية» و «هرم الثقافة»، وغير ذلك. وهو يستحق هذه الالقاب. تجربته الشخصية وانجازاته الرسميه تؤهله لذلك.
كان ثروت عكاشة ضابطا في سلاح الفرسان، وأحد أعضاء تنظيم الضباط الاحرار الذي فجر ثورة يوليو تولى وزارة الثقافة ثلاث فترات قصيرة في الخمسينيات والستينيات.
يصعب جدا ان نعرض لانجازاته. لكن نشير بداية الى ان ايرينا بوكوفا المديرة العامة لليونسكو حرصت في لفتة استثنائية على ان تنعاه بعد رحيله، واعتبرت رحيله «يوما حزينا لليونسكو ومؤلما لنا جميعا»، واشارت بصفة خاصة الى قيادته حملة انقاذ آثار النوبة.
وهذا واحد من اكبر انجازاته المشهودة، فعند انشاء السد العالي، كانت آثار النوبة ومعبد ابوسمبل ومعبد فيلة مهددة بالدمار. ثروت عكاشة خاض حملة دولية ضارية مشهودة لانقاذ هذه الآثار ونقلها، بالتعاون مع اليونسكو، وهي الحملة التي قادت الى انقاذ هذه الآثار بالفعل.
ويبقى ان انجازاته في مجال الثقافة في مصر اكثر من ان تحصى.
ثروت عكاشة هو باختصار الذي اسس البنى الاساسية للثقافة المصرية، وهذه البنى هي نفسها الموجودة حتى اليوم من دون ان تحدث عليها اضافات كثيرة منذ الستينيات .
يكفي ان نشير مثلا الى انه هو الذي انشأ «المجلس الاعلى للفنون والآداب»، الذي تحول بعد ذلك الى «المجلس الأعلى للثقافة». وهو الذي انشأ «الهيئة العامة للكتاب» و«اكاديمة الفنون» و«دار الكتب والوثائق القومية» وفرق دار الاوبرا والسيرك القومي والمسارح الشهيرة المعروفة في مصر حتى الآن.
وهو الذي اسس مشروع «الألف كتاب» وسلاسل النشر الشهيرة الاخرى مثل «المكتبة الثقافية» و«المسرح العالمي»، وغيرها، والتي وفرت الكتب بأسعار زهيدة جدا، وتربت عليها اجيال من المصريين.
لكن اهم انجازاته على الاطلاق كانت تأسيسه لتجربة «الثقافة الجماهيرية» التي تحولت بعد ذلك الى «الهيئة العامة لقصور الثقافة».
هذه التجربة التي تأسست في اطارها مئات من بيوت وقصور الثقافة في كل انحاء مصر، لعبت دورا تاريخيا مشهودا في نشر الثقافة والمعرفة بمفهومها العام الشامل في كل مدن مصر وقراها ونجوعها.
هذه التجربة التي قامت في ذلك الوقت على اكتاف الشباب المتحمس احدثت تحولا هائلا في الوعي الثقافي، وفي الخروج بالثقافة من اسر المركزية واسر النخبوية، الى ان تصبح شأنا شعبيا عاما.
هذا الذي ذكرت ليس سوى اشارة سريعة جدا الى بعض انجازات ثروت عكاشة ولا يتسع المجال للتفصيل.
بالطبع، لم يكن انجاز ثروت عكاشة هو مجرد تاسيس مثل هذه البنى التحتية للثقافة في حد ذاتها. كانت هذه هي القواعد التي بني عليها ما نسميه اليوم العهد الذهبي للثقافة في مصر في الخمسينيات والستينيات.
الامر الغريب - كما قلت - انه منذ ان ترك ثروت عكاشة وزارة الثقافة في اواخر الستينيات حتى يومنا هذا، ما زالت هذه البنى التي اسسها هي نفسها التي تقوم عليها الثقافة المصرية حتى اليوم، ولم يتم اضافة الكثير اليها.
وعلى الرغم من ان كثيرين تولوا وزارة الثقافة منذ ذلك الوقت عبر العقود الماضية، ورغم التحولات السياسية والاجتماعية الهائلة التي شهدتها مصر، ظل ثروت عكاشة دوما في ضمير المثقفين المصريين هو «النموذج المثال» لما يجب ان يكون عليه وزير الثقافة.
السؤال المهم الذي يستحق ان نتوقف عنده هو: ما هي العوامل التي على اساسها يمكن ان نفسر نجاح ثروت عكاشة في تحقيق هذه الانجازات، وبالتالي في النهضة الثقافية التي شهدتها مصر؟
كيف تأتى لهذا الضابط في سلاح الفرسان ان يصبح فارس الثقافة على هذا النحو؟
هذا سؤال مهم لأن الاجابة عنه تقدم مفاتيح لمن يريد تأسيس نهضة ثقافية حقا في دولنا العربية اليوم.