الجريدة اليومية الأولى في البحرين


دراسات


السياسة الخارجية الكويتية.. ماضي مضيء ومستقبل واعد

تاريخ النشر : الاثنين ٥ مارس ٢٠١٢



مركز الخليج للدراسات الإستراتيجية
ثمة بعدان رئيسيان لا يمكن الفصل بينهما في أي نظام سياسي، وهما البعد الداخلي الذي ينصرف إلى مجمل أهداف وتوجهات السياسة العامة للنظام القائم في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية...إلخ، والبعد الخارجي الذي يبحث في مجمل الثوابت والركائز والأهداف التي يعمل النظام على تحقيقها في سياق علاقاته الدولية مع جميع مجالات ودوائر التحرك على مستوى السياسة الخارجية.
وتتوقف فاعلية السياسة الخارجية على مدى نجاحها في تعزيز أو الدفاع عن المصلحة الوطنية للدولة.. تلك المصلحة التي تشكلها عوامل تعد مؤشرًا لما ينبغي أن تكون عليه السياسة الخارجية الفاعلة لأية دولة من قبيل الشعور المشترك بالهوية الوطنية، وتحديد أصدقائها وأعدائها، ومصالحها وتطلعاتها، والاختيار المنضبط للقائمين عليها، بحيث يتم اختيار أعضائها وتوظيفهم في الوقت والمكان المناسبين تبعًا لأهمية الدولة التي يعملون بها ووفقًا لقدراتهم والمطلوب منهم.
وعلى مدار تاريخ دولة الكويت منذ استقلالها وحتى الآن ومرورًا بما شهدته من أحداث وتطورات مست كيانها ووجودها كدولة، وتأثرت بها وأثرت فيها بصورة مباشرة ؟ كان للسياسة الخارجية الكويتية طابعها المميز الخاص بها، والذي يتسم بالاستقلالية والنشاط والفاعلية وأيضًا الإيجابية، وبصورة جعلت هذه الدولة الصغيرة في مساحتها والكبيرة بمواردها ورجالها عضوًا فاعلاً في محيطها الإقليمي وقبلة للكثير من الأنشطة الدبلوماسية العربية والدولية، كما كان لها دور محوري في التوصل إلى حلول للعديد من القضايا والأزمات، فضلاً على مساهمتها في تعزيز وتنمية روح التعاون المشترك والعمل على أن تسود ثقافة الحوار والسلام في المنطقة من دون أن تقبل تدخل أحد في شؤونها أو ترضى بالتدخل في شؤون الآخرين.
ذلك الحضور الإقليمي المميز وتلك القيمة السياسية والدبلوماسية لدولة الكويت والتي حققتها منذ استقلالها عام 1961 وحصدت ثمارها أثناء جريمة الغزو العراقي لها؛حيث أوضحت ما تحظى به الكويت من أهمية ومكانة إلى الدرجة التي جعلت دول العالم تحشد جيوشها وتعبئ مواردها من أجل تحريرها وإخراج المعتدي من أرضها.
وقد لا يكون من قبيل المبالغة القول إن أداء السياسة الخارجية الكويتية يشكل نموذجًا متفردًا في حد ذاته، فهي تقوم على أسس وتقاليد راسخة كفلت لها الاستمرار والعمل بالكفاءة نفسها، وذلك بفضل الشيخ «صباح الأحمد الجابر» الذي تولى منصب وزير الخارجية أكثر من ثلاثة عقود (وهو النموذج نفسه الذي يمثله الشيخ «محمد بن مبارك آل خليفة» وزير خارجية البحرين السابق ونائب رئيس الوزراء الحالي.. وهما مدرسة في الدبلوماسية يمكن تدريسها في الجامعات الخارجية) وأيضًا بفضل الشيخ «محمد صباح السالم» الذي حمل الراية في مرحلة مهمة من تاريخ الكويت الحديث ثم سلمها للشيخ «صباح الخالد» وزير الخارجية الحالي.
وفي واقع الأمر، فإن الدور النشط والفاعلية التي اتسم بها أداء السياسة الخارجية الكويتية قد حكمته مجموعة من العوامل أو المحددات التي شكلت في مجملها الإطار العام لهذه السياسة، ومن بين هذه العوامل والمحددات ما هو داخلي وأيضًا ما هو خارجي.. فلو نظرنا بداية إلى المحددات الداخلية سنجد الآتي:
- الموقع الجغرافي المتميز، فالكويت تقع على رأس الخليج العربي، وهي منطقة في غاية الأهمية والحيوية في الإستراتيجية العالمية لبعض القوى الدولية (سواء أمريكا والاتحاد السوفيتي في حقبة الحرب الباردة أو أمريكا فقط في ظل القطبية الأحادية) نظرًا لأهميتها الاقتصادية (حيث تمتلك منطقة الخليج العربي وحدها ما يزيد على 60% من احتياطيات الطاقة في العالم) وأيضًا العسكرية والأمنية، وهو ما فرض ويفرض على الكويت أتباع نمط من العلاقات والسياسات يحقق لها الأمن والاستقرار ويحفظ لها وجودها.
- الثروات الطبيعية، فالكويت إحدى أكبر الدول النفطية في منطقة الشرق الأوسط؛ حيث يصل إنتاجها اليومي في الوقت الراهن إلى 2,6 مليون برميل (المركز العاشر في الإنتاج العالمي)، ويصل احتياطيها إلى 104 بلايين برميل (المركز الخامس في الاحتياطي العالمي)، وهذه الثروة النفطية علاوة على أنها توفر لها من خلال الوفرة المالية أداة مهمة من أدوات السياسة الخارجية (التمويل والاستثمار والمساعدات)، إلا أنها جعلتها محط أطماع قوى إقليمية.
- ضعف الموارد البشرية، فقلة عدد السكان من الكويتيين الأصليين (والذي لا يتجاوز حاليًا 1,38 مليون من إجمالي عدد سكان يبلغ 3,5 ملايين نسمة) فرض على الكويت من ناحية نمطًا جديدًا من علاقات التعاون مع بعض الدول يقوم على استيراد العمالة الوافدة منها، ومن ناحية أخرى البحث عن شكل من أشكال الاندماج مع دول الجوار الخليجي لتعظيم القدرات الاقتصادية والأمنية، وتطلب من ناحية ثالثة السعي لإيجاد نمط من الحماية لمواجهة التهديدات والأخطار التي تتعرض لها.
- طبيعة التركيبة الاجتماعية للسكان، فالمجتمع الكويتي يتسم بالتنوع المذهبي والعرقي شأنه شأن غيره من دول الخليج العربية، ورغم أن الشيعة والسنة يشكلون على مدار التاريخ الكويتي نسيجًا واحدًا فإن ذلك لا يمنع محاولة البعض غرس بذور الشقاق بين أبنائه.
أما بالنسبة إلى المحددات الخارجية فيتمثل أبرزها في ثلاثة محددات رئيسية:
- دول الجوار الجغرافي، فالكويت تجاور جغرافيًا ثلاث دول إقليمية كبرى هي: السعودية والعراق وإيران وباستثناء السعودية التي تحتفظ معها الكويت بعلاقات أخوة متميزة على المستوى الثنائي وفي إطار منظومة مجلس التعاون الخليجي، فإن علاقاتها لم تخل يومًا من توترات وصلت إلى مستوى العدوان على سيادة الكويت من جانب العراق عام 1990، والتدخل في شؤونها من جانب إيران بممارسة أنشطة تجسسية ضدها، مما استلزم سياسة خاصة في التعامل مع هاتين الدولتين تتسم باليقظة والحذر الشديد.
- البيئة الإقليمية المتوترة، فانتماء الكويت إلى منطقة الشرق الأوسط بما تشهده من أزمات متواترة ومتعددة في آن واحد بدءًا من فشل عملية السلام العربية الإسرائيلية واستمرار عدم استقرار لبنان، ومرورًا بما شهدته منطقة الخليج من حروب وأزمات (3 حروب في ربع قرن كانت الكويت نفسها ميدانًا لإحداها) وانتهاء بالصراع على النفوذ والهيمنة في المنطقة بين الولايات المتحدة وإيران (والتي تجسدها حاليًا أزمة الملف النووي الإيراني).. كل تلك الأحداث والتطورات فرضت على الكويت انتهاج سياسة تتسم بالفاعلية وتحقق ما تراه في مصلحتها في المنطقة الخليجية
- الالتزام العربي والإسلامي، فبحكم انتماء الكويت العربي والإسلامي، ظلت الكويت في سياستها الخارجية ملتزمة على الدوام بمناصرة القضايا العربية والإسلامية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، وكذلك العمل على استقرار لبنان والصومال ومساندتها للشعوب الإسلامية في البوسنة وكشمير وغيرها من الدول.
إن المتتبع لمسار السياسة الخارجية الكويتية سيلاحظ أن جميع المواقف والتحركات والسياسات التي اتبعتها واتخذتها قد تأثرت بتلك المحددات، فجاء أداؤها من الوهلة الأولى متسمًا بالديناميكية والإيجابية.. وبنظرة سريعة على ذلك الأداء سنجد أنها استطاعت أن تحقق للكويت مكانتها الدولية، وأن تبرز شخصيتها العربية وقدرتها على الحوار باعتباره الأسلوب الأمثل لمعالجة المشكلات، مما سهل اندماجها في محيطها العربي والإسلامي، وأصبح لها دور في تعميق أواصر الأخوة مع الأشقاء.
فقد حرصت الكويت في مرحلة مبكرة من تاريخها كدولة مستقلة أن تكون لها إسهاماتها الإيجابية في المنطقة، فمن خلال اللجنة الدائمة لمساعدات الخليج العربي كان لها دور في تنمية وتطوير العديد من إمارات الخليج العربي، وأيضًا كان تحركها فاعلاً في مواجهة التهديد العراقي لسيادتها واستقلالها وهي الدولة الوليدة في بدايات الستينيات، وكذلك شاركت في المؤتمرات الخاصة بوضع حد للحرب الأهلية في اليمن، وساهمت عام 1972 في توقيع اتفاق السلام بين اليمنيين الشمالي والجنوبي، وتوسطت عام 1980 بين عمان واليمن.
ولقد كان قيام الشيخ «صباح الأحمد» برفع علم الكويت فوق مبنى الأمم المتحدة بعد قبول عضويتها في 11/5/1963 البداية التي تتابعت وتواصلت بعدها جهود الدبلوماسية الكويتية، والتي لم تهدأ حتى انضمت الكويت للعديد من المنظمات والوكالات الدولية والإقليمية.
وانطلاقًا من التزامها العربي سخرت الكويت إمكاناتها لخدمة قضايا أمتها العربية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، ففيها تشكلت منظمة التحرير الفلسطينية، وكذلك حركة فتح، ومنها انطلق شباب الثورة الفلسطينية والشباب القومي، كما فتحت أبوابها لأبناء الشعوب العربية ليساهموا في بناء نهضتها.
أيضًا كانت الكويت داعمة للتوجهات الوحدوية في المنطقة فكان حرصها في مرحلة مبكرة على دعم وحدة إمارات الخليج العربي في مطلع السبعينيات ممثلة في دولة الإمارات العربية المتحدة، فضلاً على انضوائها مع شقيقاتها من دول الخليج العربية في منظومة مجلس التعاون الخليجي والذي تأسس في مايو .1981
ويضاف إلى الرصيد الإيجابي الكبير للدبلوماسية الكويتية تحركها الفعال الذي وظف القدرات الاقتصادية والمالية للكويت في خدمة قضايا التنمية في العالمين العربي والإسلامي من خلال توفير التمويل للعديد من المشروعات الكبرى من خلال بيت التمويل الكويتي والصندوق الكويتي للتنمية.
وربما كان الإنجاز الأهم للدبلوماسية الكويتية متمثلاً في إدارتها الناجحة لمعركة الوجود إبان أزمة العدوان العراقي على الكويت، وذلك من خلال حشد المجتمع الدولي وراء قضية الكويت حتى تم تحريرها من الاحتلال، فضلاً على متابعة القضايا العالقة التي ترتبت على العدوان كقضايا الأسرى والمرتهنين والتعويضات والديون ورسم الحدود بجانب وضع ترتيبات أمنية كويتية جديدة تربط الكويت بالمنظومة الغربية الأمنية والعسكرية.
وبدوره كان تحرير الكويت من الغزو العراقي بمثابة نقطة فاصلة في مسيرة سياسة الكويت الخارجية؛ إذ معها بدأت مرحلة جديدة كان على الكويت أن تعيد فيها حساباتها من جديد في ضوء الواقع الذي فرضه الغزو على طبيعة العلاقات والتحالفات في المنطقة دون أن تنسي البعد العربي وانتمائها إليه . ومع تخلي الشيخ «صباح الأحمد» عن منصب وزير الخارجية في عام 2003 بعد مسيرة طويلة حافلة بالإنجازات الدبلوماسية استلزم الأمر قيادة دبلوماسية جديدة تستكمل المسيرة بفكر جديد ورؤية واضحة لمكانة ودور الكويت.
ولقد كان اختيار الشيخ «جابر الأحمد الصباح» أمير الكويت في 14/7/2003 للشيخ الدكتور «محمد صباح السالم الصباح» ليكون وزيرًا للخارجية من منطلق قناعة بأنه رجل المرحلة بحكم خلفيته العلمية كأحد خريجي جامعة هارفارد وتخصصه في الاقتصاد والسياسة، وأيضًا بحكم عمله الأكاديمي كأستاذ في جامعة الكويت، ثم كسفير للكويت في واشنطن في الفترة من 13/1/1993 وحتى تعيينه وزيرًا للدولة للشؤون الخارجية في 14/2/.2001
وقد اخذ الشيخ «محمد» على عاتقه مهمة رسم معالم الدبلوماسية الكويتية خلال العقد الأول من الألفية الثالثة؛ حيث عمل بحس وطني ونهج علمي مستغلاً خلفيته الأكاديمية وخبرته الدبلوماسية، وكان من نتاج جهود الوزير الجديد اكتساب الدبلوماسية الكويتية رونقًا خاصًا من خلال سياسة تتسم بالكفاءة والحرص على مصالح الكويت العليا، وقد ظهر ذلك في عدة مجالات:
- حماية الأمن الوطني الكويتي من خلال تطوير المنظومة الدفاعية والأمنية الكويتية لمواجهة التهديدات التي تتعرض لها الدولة، وذلك من خلال تعزيز علاقات التعاون والتحالف مع الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية.
- المساهمة في دفع التجربة الوحدوية الخليجية، من خلال متابعة خطوات تحقيقها على الأصعدة المختلفة سياسيًا (استمرار التنسيق والتعاون فيما يخص قضايا المنطقة من قبيل اتخاذ موقف جماعي موحد من البرنامج النووي الإيراني يقوم على رفض أن يكون للاستخدامات العسكرية، ويدعو لأن يكون الحوار والتفاوض هو السبيل لحل الأزمة) واقتصاديًا (إعلان السوق المشتركة عام 2007، وتدشين البنك المركزي الخليجي 2009، وبرنامج الربط الكهربائي 2009 أيضًا) وأمنيًا (التعاون في مواجهة الإرهاب وأشكال الجريمة المنظمة).
- العمل على تفعيل العمل العربي المشترك، والمساهمة في تنقية الأجواء العربية سواء في إطار الجامعة العربية أو في الإطار الثنائي، وبما يخدم مصالح الأمة العربية، ويخدم قضايا المنطقة، ويحسب للدبلوماسية الكويتية في عهد الشيخ «محمد صباح» أنها رغم ما أحدثه الغزو العراقي من جرح غائر في الوجدان الكويتي، فإن الكويت تجاوزت آلام الماضي، وبدأت تستعيد علاقاتها من جديد مع بعض الدول العربية التي لم تقف إلى جانبها أثناء العدوان العراقي، بل إن العراق رغم الجريمة التي ارتكبها في عهد نظام «صدام» في حق الكويت عاد إلى بؤرة الاهتمام الكويتي بعد سقوط هذا النظام، وأصبح هناك حرص على مساعدة الشعب العراقي إنسانيا، فضلاً على المساهمة في إعادة الاعمار والتعاون من أجل حل القضايا العالقة.
- توسيع شبكة علاقات الكويت الدولية سواء مع الدول أو المنظمات الدولية؛ حيث أصبحت الكويت تمتلك شبكة علاقات متينة وتغطي كافة المجالات مع القوى الدولية الرئيسية في العالم وفي مقدمتها الولايات المتحدة وروسيا والصين واليابان ودول الاتحاد الأوروبي، ومع دول آسيا وأفريقيا وأمريكيا اللاتينية.. كما ساهمت ومازالت تساهم بدور مهم في تحقيق الاستقرار لسوق الطاقة الدولية من خلال عضويتها في منظمة أوبك.
وإذا كان يحسب للشيخ الدكتور «محمد صباح السالم» الذي استقال لأسباب «يعرفها الكويتيون» ضمانه النجاح والاستمرارية للسياسة الخارجية الكويتية وإدارتها بكفاءة ومنهجية علمية بصورة حفظت للكويت مكانتها ودورها، فإن القيادة الجديدة للدبلوماسية الكويتية ممثلة في الشيخ «صباح الخالد الصباح»، والذي تولى منصبه في 23/1/2011، وأعيد تعيينه في الحكومة الجديدة برئاسة الشيخ «جابر المبارك الصباح» أصبح مطالبًا بالسير في طريق الإنجاز والحفاظ على الزخم ذاته الذي اتسم به أداء الدبلوماسية الكويتية على مدى 50 عامًا منذ استقلال الدولة الكويتية ؟ وهو بحكم تأهيله العلمي في العلوم السياسية والخبرات التي اكتسبها كدبلوماسي على مدى تاريخه الوظيفي بوزارة الخارجية والذي يمتد لأكثر من ثلاثة عقود، قادر على أن يسير على درب النجاح نفسه الذي سلكه سلفاه واللذان كانا لهما الفضل فيما وصلت إليه الكويت من مكانة إقليمية ودولية.. تلك المكانة التي كانت ثمرة لسياسة خارجية اتسمت بالاستقلالية والانفتاح وعدم التدخل في شؤون الغير، علاوة على إعلائها ثقافة الحوار وعملها على ترسيخ قيم السلام والاستقرار في العالم.. وهو ما تشاركها فيه أيضًا شقيقاتها من دول مجلس التعاون الخليجي.