شرق و غرب
سنوات الجمر في سوريا
تاريخ النشر : الاثنين ٥ مارس ٢٠١٢
ظل الرئيس السوري السابق حافظ الأسد يحكم بلاده بقبضة حديدية ويبطش بمعارضيه منذ توليه الحكم عقب انقلاب 1970وحتى وفاته سنة .2000 إنها سنوات الرعب التي امتدت إلى مدى ثلاثة عقود.
قبيل وفاة حافظ الأسد سنة 2000 توقع أحمد حريري ما قد يحدث في سوريا لدى إعلان وفاة حافظ الأسد. أحمد حريري هو أحد أصدقائي السوريين الذين يعملون في وزارة الإعلام وهو ينحدر من مدينة «تدمر» الواقعة في شرق العاصمة السورية دمشق.
في مدينة تدمر أحد أسوأ السجون السورية وهو يقع على الطريق الذي يمر عبر الصحراء وصولا إلى العراق. غرست أشجار كثيفة على طول الطريق لحجب منظر ذلك السجن الذي يقف حتى اليوم شاهدا على سنوات الرعب التي ورثها الرئيس الحالي بشار الأسد عن والده حافظ الأسد.
في سنة 1980 كانت مدينة تدمر وسجنها الرهيب مسرحا لمذبحة راح ضحيتها الإسلاميون علما أن رفعت الأسد ؟ شقيق حافظ الأسد وعم بشار الأسد ؟ هو الذي تلطخت يداه بالدماء في تلك الجزرة. يقول بعض الشهود إن الجثث دفنت ليلا في حفرة جماعية في سفح أحد التلال وهي لاتزال مدفونة هناك حتى اليوم من دون أن يعرف أحد مكان القبر الجماعي باستثناء دائرة ضيقة موالية للنظام البعثي في دمشق.
كنا متجهين على متن السيارة إلى مدينة تدمر وقد كان أحمد حريري يجلس في المقعد الخلفي ويدخن السيجارة تلو الأخرى. يومها قال أحمد حريري: «عندما يموت حافظ الأسد سيذهب كل سكان تدمر إلى سفح الجبل. إنهم يعرفون جيدا مكان دفن أحبائهم.. لا يقتصر الأمر فقط على أولئك الذين قتلهم رفعت الأسد. عندما يتأكدون أن حافظ الأسد قد رحل إلى خالقه فإنهم سيضعون الزهور فوق الموقع ويترحمون على قتلاهم». عندما مات حافظ الأسد سنة 2000 بعد أن داهمته أزمة قلبية ورغم أن حزب البعث قد عدل الدستور على عجل لتمكين ابنه بشار الأسد من خلافته على رأس هرم السلطة لم يجرؤ أي من سكان مدينة تدمر على الذهاب إلى سفل الجبل ووضع الزهور على رفات أحبائهم في المقبرة الجماعية. أما من جانب حزب البعث الحاكم فإنه لم يتم أي اعتراف بأحداث العنف والمجازر الرهيبة التي حدثت في سجن مدينة تدمر خلال سنوات الرعب التي امتدت إلى ثلاثة عقود وورثها بعد ذلك نظام بشار الأسد عندما خلف والده حافظ الأسد الذي حكم سوريا من سنة 1970 حتى سنة .2000
لقد تنفس السوريون الصعداء في البداية عندما رأوا أن طبيب العيون الشاب والمتعلم في إنجلترا بشار الأسد هو الذي سيتولى مقاليد الحكم وذهب في اعتقادهم أنه سيطوي صفحة والده الذي أقام دولة الرعب. لذلك لم يكن اي أحد يرغب في الحقيقة في نبش الماضي الأليم.
لقد أظهر التقرير الذي صدر في واشنطون سنة 2010 في إطار مشروع العالم العربي أن النظام الذي أنشأه بشار الأسد غير قادر على تحقيق «الربيع الديمقراطي» الذي يتمناه المفكرون العرب. جاء التقرير المذكور تحت عنوان «سنوات الخوف» وقد ذكر مؤلفوه أن عدد المفقودين في عهد حافظ الأسد فاق سبعة عشر ألف شخص لا يعرف أي شيء عن مصيرهم حتى الآن.
يقع التقرير المذكور في 117 صفحة وهو يتضمن العديد من القصص التي تدمي القلب عن عمليات الاختطاف والإعدامات بدون محاكمات والآباء والأمهات والزوجات والأبناء الذين ظلوا ينتظرون عودة أحبائهم على مدى ثلاثة عقود علما بأنه يعتقد بشكل شبه مؤكد أنهم قتلوا في مطلع سنوات الثمانينيات.
تولى إعداد التقرير المذكور فريق قانوني برئاسة رضوان زيادة وهو من أصل سوري وقد عاش طويلا في المنفى في الولايات المتحدة الأمريكية وهو يدير مركز دمشق لدراسات حقوق الإنسان.
يغطي تقرير «سنوات الخوف» ثلاثين عاما هي فترة حكم حافظ الأسد، القائد السابق لسلاح الجو السوري الذي عمل كل ما في وسعه من أجل الإبقاء على الأقلية العلوية على كل مفاصل السلطة كما خاض حربا دامية نكل خلالها بخصومه الإسلاميين الذين اكتظت السجون بعشرات الآلاف منهم، إضافة إلى آلاف السجناء السياسيين الآخرين.
في سنة 1980 دخل النظام البعثي الحاكم في دمشق بقيادة حافظ الأسد في حرب مفتوحة ضد معارضيه الإسلاميين والليبراليين والعلمانيين. ينص القانون رقم 49، الصادر بتاريخ 7 يوليو 1980 على إنزال عقوبة الإعدام على كل من لا يتخلى ؟ كتابيا - عن انتمائه إلى حركة الإخوان المسلمين. لم يتوان نظام حافظ الأسد في شن حملة واسعة من الاغتيالات على طريقة العقيد الليبي معمر القذافي وقد طالت العديد من المعارضين السياسيين في بلاد المنفى.
في شهر فبراير 1982 انتفضت مدينة حماة التي تعتبر اليوم من أشد المناطق المنتفضة ضد نظام بشار الأسد. عندها لم يتوان نظام حافظ الأسد في تدمير أحياء بأكملها من المدينة فوق رؤوس أهلها بدعوى أن الإخوان المسلمين يتحصنون بها. يقول تقرير «سنوات الخوف» ان أكثر من خمسة عشر ألف شخص قتلوا في غضون ساعات في مدينة حماة، فيما يجزم آخرون بأن عدد القتلى الحقيقي يفوق عشرين ألفا بكثير.
أما الإسلاميون فقد ردوا بدورهم على تلك المجزرة حتى ان الفتيات كن يفجرن أنفسهم قرب مواقع الجنود السوريين كما أن الإخوان المسلمين ثأروا لقتلاهم فقتلوا عائلات بأكملها من البعثيين المتورطين في مجزرة حماة.
يعتبر مؤلفو تقرير «سنوات الخوف» ان أكثر من خمسة وعشرين ألف رجل قد اختفوا في ظروف غامضة في بداية الثمانينيات من القرن الماضي وخلال الأعوام القليلة التي تلتها حتى انهم غيبوا في دهاليز السجون ومراكز الاعتقال ولم يعد أي أحد يعرف عنهم أي شيء.
جاء في التقرير ما يلي:
«لقد اختفى أغلب هؤلاء الناس قبل سنة 2000، وقد تم إطلاق سراح بعض المسجونين السياسيين خلال السنوات القليلة الماضية لكن كثيرا من الأشخاص المختفين لايزال مصيرهم مجهولا». في بداية حكم بشار الأسد حدث بعض الانفراج وعرفت سوريا بعض الانفتاح غير أن نظام دمشق ما لبث أن انقلب على ما كان يعرف آنذاك بـ «ربيع سوريا».
يقول أحد المعتقلين السابقين الذين امضوا سنوات طويلة في سرادق السجون السورية التي يضرب بها المثل في العالم لفظاعة ما يرتكب بداخلها من تعذيب:
«في كل يوم اثنين وخميس من كل أسبوع يتم اختيار مجموعة من الإخوان المسلمين ويشنقونهم في ساحة سجن مدينة تدمر».
رغم أن بعض السجناء الآخرين قد صدرت ضدهم أحكام بالسجن فترات قصيرة فإنهم أمضوا مدة طويلة في السجون فيما ظلت الأجهزة الأمنية تقول لعائلاتهم انها لم تسمع اي شيء عن ذويهم. في سوريا توجد نصوص قانونية عديدة ظلت حبرا على ورق رغم أنه يفترض أن تفعل من أجل حماية المواطنين السوريين من الاعتقالات التعسفية والتعذيب والإعدام من دون محاكمات. الفقرة الـ 3 من المادة الـ 28 من الدستور السوري تنص على «عدم تعرض أي مواطن سوري لأي عمليات تعذيب ؟ جسدية كانت أم نفسية ؟ أو أي إهانات...». تنص مادة أخرى في الدستور السوري على ضرورة أن تتخذ الدولة «كل الاجراءات التشريعية والإدارية والقضائية الضرورية واللازمة من أجل منع حالات الاختفاء القصري».
يؤكد المعتقل عبدالله النجي أن غازي كنعان هو الذي كان يدير «السجون» التي أنشئت أصلا للتعامل مع «العدو الإسرائيلي» غير أنها أصبحت تستخدم للزج بالمعتقلين السوريين من «أعداء» حزب البعث الحاكم. لقد سبق لغازي كنعان أن تولى قيادة أجهزة المخابرات السورية في لبنان كما أنه تقلد لاحقا وزارة الداخلية وقد انتحر في مكتبه وهو يحمل صفة الوزير وقد قيل انه كان «متورطا في مؤامرة ضد نظام بشار الأسد».
لا أحد يعرف اليوم الأماكن التي دفنت فيها جثث المعتقلين السوريين الذين تم إعدامهم في السجون من دون محاكمات. لقد ذكر التقرير أن الاختفاءات التي طالت آلاف الأشخاص أثرت بشكل مباشر في حياة أكثر من مليون مواطن سوري، علما بأن عدد سكان سوريا يفوق اليوم 21 مليون نسمة.
إندبندنت