الجريدة اليومية الأولى في البحرين


عالم يتغير




لماذا كل هذا الهجوم على الثقافة؟

تاريخ النشر : الخميس ٨ مارس ٢٠١٢

فوزية رشيد



} ما حدث من احتشاد وهتافات من جانب البعض أمام «مركز الشيخ إبراهيم»، وترويع لمن حضر فعالية كانت قائمة في المركز يوم الاثنين الماضي، يثير الكثير من التساؤلات، ويدخل في إطار منحى غرائبي لم نعهده قبل اليوم في البحرين. الذي حدث هو (تدرج نوعي) لحملة سابقة شنها عدد من أعضاء المجلس النيابي وآخرون على الثقافة، وربيع الثقافة، وبما يُعتبر استمراراً لنهج هجومي سابق خلال السنوات الأخيرة، وأضيف لها هذا العام حملة شرسة ضد وزيرة الثقافة، ونعتها بأقذع الألفاظ، على الرغم مما حققته من منجزات ثقافية وتراثية وضعت اسم البحرين على قائمة الكثير من فعاليات المؤسسات الدولية ومؤسسات الأمم المتحدة.
} الغريب أن هذا البعض لديه قناعة خاصة بربط ما يجري في «سوريا» بإيقاف الفعاليات الثقافية والفنية في البحرين، على الرغم من أن موقف كل الشعوب العربية وليس فقط الشعب البحريني من ضحايا وشهداء الأحداث هناك، هو موقف واضح وثابت من حيث التعاطف وليس بحاجة إلى مزايدات من أي جهة عليها، تماماً مثلما هو الموقف الشعبي من ضحايا أحداث أخرى في بلاد عربية أخرى، لايزال بعضها يعاني الفوضى كالعراق مثلاً، ومثلما كان التعاطف أيضاً ثابتاً من ضحايا وشهداء ليبيا ومصر واليمن، ولكن لم يطالب أحد قبل اليوم بأن يُقابل أي من تلك الأحداث وفرضية مناصرة شعوبها بحداد قائم في البحرين أو بإيقاف الفعاليات الثقافية، خاصة أن البحرين نفسها مرت بأحداث عنف وتخريب وفوضى، لاتزال مستمرة منذ زمن ليس بقصير، وليس فقط منذ فبراير قبل الماضي.
} إن حجة إيقاف الفعاليات الثقافية تضامناً مع هذا البلد أو ذاك، وعلى الرغم من التعاطف الوجداني الكبير لدى الشعب البحريني مع ضحايا مختلف الأحداث التي حدثت ولاتزال تحدث في عدد من البلاد العربية، فإن مثل هذه الحجة تخفي وراءها للأسف (حملة ذات صفة ثابتة وممنهجة) على الثقافة ذاتها وتجلياتها المختلفة كما نعتقد، التي يعتبر «مركز الشيخ إبراهيم» أحد منابرها الرئيسية في المملكة، وهو المركز الأكثر نشاطاً طوال ما يزيد على عشر سنوات، استضاف الكثير من الوجوه الفكرية والثقافية والأسماء المهمة عربيا ودوليا، وحيث نعتقد جازمين أيضا أن جذور تلك الحملة ليست ذات صلة مبدئية بالأحداث في هذا البلد أو ذاك.
} إن الوجه الثقافي للبحرين، ومجالات حرية الرأي والتعبير، وتسجيل البحرين عاصمة للثقافة العربية 2012، وفعاليات الربيع الثقافي، من المفترض أن تكون تعبيراً عن توجهات ثقافية مستمرة، ليس من مصلحة التعددية الثقافية فيها، أن تخضع لحملات مضادة شرسة، لا ترى في أنشطة الربيع الثقافي، إلا فعالية بعض الفرق الفنية التي تتم استضافتها في مثل هذه المناسبة، وحيث بالمقابل هناك كثيرون في البحرين يحبون التعرف على استقطابات مختلف الفنون ومن حقهم ذلك، وحيث الحرية متروكة لمن يريد أن يشاهدها أو يقاطعها، ومن دون أن يُقصي أحد حرية الآخرين أو يتعدى عليها، عبر إرهاب فكري أو نفسي، أو تحشيد وهتافات مضادة عند مداخل مراكز تلك الفعاليات. فالتعددية الثقافية والأمزجة الفكرية والفنية هي في النهاية سِمة العصر الطبيعية في كل المجتمعات وليست في البحرين وحدها.
} في هذا الإطار لا يمكن اليوم مثلاً أن تفرض أي جماعة رأيها بإيقاف البث التلفزيوني أو الفضائي أو مواقع التواصل الاجتماعي أو النِت أو السينما، وجميعها مفتوحة على كل المناخات والأجواء، بل على المحرمات والاستباحات، لأن الناس أنفسهم هم الذين بأنفسهم أيضاً يحددون ما يختارونه من تلك الفضاءات المفتوحة، ولا يمكن إخضاعهم قسراً على مقاطعتها، فالتدافع والتناقض سمة للحياة ذاتها في كل الأزمنة، وقيمة الحفاظ على القيم والأخلاق هي مسألة «اختيارية» مثلما هي في النهاية (قيمة صراعية) أي أنها تكتسب حقيقتها وسط كل ما هو موجود حولها من نقائض، هذا بما يخص تلك الفضاءات المفتوحة، أما بما يخص الثقافة أو المعطيات الفنية الراقية، فهي أصلاً ليست من المجالات التي توضع في موضع المحاربة. لا يمكن مثلاً محاربة السينما فهناك ما هو سيئ وسلبي أو مدمر للقيم فيها، ولكن هناك بالمقابل أفلاما على النقيض تطرح قضايا ورؤى وقيما بناءة، وعلى ذات المنوال التلفزيون والفضائيات والنت، وذات الشيء ينطبق على الفنون الصوتية والفرق الفنية وغيرها وعلى كل مجالات الثقافة والفنون.
} إننا اليوم ونحن نعيش فضاءات إعلامية ومعلوماتية وثقافية وفنية مفتوحة على بعضها بعضا، والعالم كله محشور في شاشة داخل البيوت والغرف، من المستحيل لأحد أو أي جهة أن تحتكر الرؤى والأفكار في اتجاه واحد، هي وحدها فقط من يؤمن بها، لأن في ذلك ليس فقط استبداداً وإنما توجه إقصائي لحرية الآخرين وميولهم الثقافية والفنية، وإدخال للمجتمع في صندوق مغلق يسوده التزمت وأحادية الرأي، وأحياناً يحمل اتجاهات سلوكية خطرة على الآخرين مثل محاولة إيقاف الفعاليات عبر الهتاف المضاد والتحشيد لترويع الناس، مما يدخل في إطار الإرهاب الفكري والنفسي كما قلنا، وحتماً ليس الاستهداف للمخالفين بالسباب والشتائم هي من الأخلاقيات التي تمت بأي صلة إلى القيم الدينية أو الأخلاقية وحيث (لا إكراه في الدين)، مثلما لا تمت إلى الانفتاحين الثقافي والفني المعتادين ضمن ضوابط اجتماعية طبيعية معتادة، ليس الناس معها بحاجة إلى من يُقيّد إرادتهم أو اختياراتهم أو حريتهم بأكثر من الضوابط والروادع الذاتية الطبيعية التي يتمتعون بها، وحيث غير مقبول وصاية أحد على أحد فيها، إلا بالمجادلة بالتي هي أحسن، بعيداً عن أن يتصور البعض أن الحياة في المجتمع يجب أن تسير وفق تصوراته الخاصة وعلى الباقي السلام.
} إن خروج البعض عن أصول ومبادئ حرية إبداء الرأي أو وجهة النظر أو حتى المجادلة الحسنة، وإخراج ذلك عن الإطار الحواري الطبيعي، الذي يعبّر عن مجرد اختلاف وجهات النظر وعلى أساس احترام الأطراف المختلفة لبعضها بعضا، نقول: إن مثل هذا التوجه بفرض الرؤية أو الموقف أو الأفكار أو التوجهات الفكرية المختلفة عبر عنف فكري أو لفظي، هو من الأمور الغريبة والمستنكرة في مجتمعنا، من كان وراءها، وأيا كانت أهدافها أو تبريراتها أو منطلقاتها!
} وبعيداً عن كل ذلك فإن البحرين وطوال عصور انفتاحها الحضاري لم يحارب أحد فيها الثقافة قط، أو يتحجج في حربه على الثقافة بأوضاع دول أخرى أيا كانت، أو يمارس العنف الفكري أو اللفظي لإيقاف الفعاليات الثقافية أو الفنية، وجميع تلك السلوكات تعتبر دخيلة على الحياة البحرينية، وتشويها لقيمة الثقافة والفنون في المجتمع ودورهما، وحيث يمكن قبول وجهات النظر المختلفة، ولكن لا يمكن التسليم بحق أي أحد في ممارسة الجبر أو وضع القيود على الآخرين، أو على روّاد المراكز الثقافية أو على أصحابها، أو إجبار الناس على التقيد بوجهة نظره أو رؤيته أو موقفه الأخلاقي أو تصوراته الدينية أو الفكرية أو السياسية، فالناس في النهاية مشارب مختلفة، ووجهات نظر مختلفة، مثلما المجتمع البحريني متنوع وتعددي، ولم نتصور قط أن الثقافة أو الأنشطة الفنية يشكل أي منهما مصدراً للتهديد في المجتمع، أو يعبران عن استخفاف بضحايا أي بلد، أو يعبران عن استهتار بمشاعر ووجدان الناس، لأن الحياة ببساطة لا يمكن أن تتوقف عند وضع معين، أو يُعطي أي أحد الحق إلى نفسه لترويع وتهديد الآخرين من أجل ذلك الوضع، فلم يبق بعد ذلك إلا تفتيش الضمائر والمحاسبة عليها وإعادة ظلامية القرون الوسطى.