الجريدة اليومية الأولى في البحرين


خاطرة


الوصية الخالدة

تاريخ النشر : الجمعة ٩ مارس ٢٠١٢

عبدالرحمن فلاح



أغلى ما يتركه العبد المؤمن لعقبه عند حضور أجله أن يستوثق منهم على سلامة عقيدتهم التي هي السبيل الوحيد إلى نجاتهم يوم القيامة، يوم لا ينفع مال ولا بنون ولا جاه ولا سلطان، إلا من أتى الله تعالى بقلب سليم من الشرك والحقد والبغضاء، وفي صحيح العقيدة السعادة الدائمة في الحياة الدنيا والنجاة يوم القيامة.
لقد سجل القرآن العظيم الكثير من الوصايا في هذا المعنى، ونذكر هنا مثالين لنبيين من أنبياء الله تعالى أبيا أن يتركا الدنيا من دون أن يطمئنا على عقبيهما، وأن يتركا لهم الوصية الخالدة التي لا وصية قبلها ولا وصية بعدها.
ها هو نبي الله وخليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام يحرص أشد الحرص على أن يترك لأبنائه ولأهله وصية هي سبيلهم إلى النجاة في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: «ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون» (البقرة/ 132).
يا لها من وصية جامعة مانعة منجية من عذاب عظيم ، وعذاب مهين! إنها تحقيق لقوله تعالى: «وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون» (الذاريات/ 56).
وحين يضمن الوالد حسن توجه أبنائه، وسلامة معتقدهم، فإنه يموت وهو راض عن نفسه، مرتاح القلب لنتيجة غرسه، وحصاد عمره.
لا خير في جاه ولا مال ولا نفوذ حين يكون كل ذلك خارج دائرة الإيمان، والطاعة الخالصة لله تعالى، ولقد ضرب الله تعالى لنا مثلاً في صاحب الجنتين الذي ورد ذكره في سورة الكهف، فقد آتاه الله تعالى من الدنيا ما كان يفاخر به ذلك الرجل المؤمن الذي وكله الله تعالى إلى إيمانه ذلك الكنز الذي لا ينفد أبداً.
دخل ذلك الرجل الغني ذو المال الواسع، والجاه العريض إلى جنته وهو ظالم لنفسه، ولم يستقبل النعمة بما تستحق من شكر وعرفان بفضل المنعم سبحانه عليه، بل جحدها، وأنكر يوم البعث، فلما سلبه ربه سبحانه ما وهبه، وصيره إلى فقير معدم، عض أصابعه ندما وحسرة على ما فرط في جنب الله تعالى، وقال: «... يا ليتني لم أشرك بربي أحدا» (الكهف/ 42).
وقارون الذي ضرب الله تعالى به المثل في الغنى والثراء الفاحش، أنكر نعمة الله تعالى عليه، ونسب ما بين يديه من كنوز تنوء بحمل مفاتحها العصبة أولو القوة، نسب كل ذلك إلى علمه وسعيه، فخسف الله تعالى به وبكنوزه الأرض.
وصية خالدة أخرى ينفرد بها نبي الله يعقوب عليه السلام، بعد أن اجتمع مع جده الخليل ابراهيم عليه الصلاة والسلام في الوصية السابقة، وربما أراد من تكرار هذه الوصية أن يستوثق من أبنائه ما هم عليه من استقامة، وما يعتقدونه من عقيدة صحيحة حتى يطمئن قلبه وترتاح نفسه، يقول تعالى في شأن يعقوب عليه السلام: «أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون» (البقرة/133).
وهكذا اطمأن نبي الله يعقوب عليه السلام على بنيه، وارتاحت نفسه لمصير أبنائه ومآلهم، فهم لم يغيروا ولم يبدلوا، فإلههم هو إله آبائهم من قبل ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب، فهم لم يحيدوا عن الصراط المستقيم الذي كانوا عليه، ولم يشركوا بالله تعالى أحداً من خلقه، وظلوا على الطريق الذي سار عليه من قبلهم آباؤهم: ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب.
تلك بعض الوصايا الخالدة التي حرص أنبياء الله ورسله على أن يتركوها لأبنائهم ولأهلهم وللناس جميعاً من بعدهم، وهي خير من كنوز الدنيا مهما عظمت وكثرت، فليحرص كل واحد منا على أن يستوثق من أبنائه عند حضور أجله ، وقبل أن يلقى ربه عز وجل ويسأله عن أهله وذريته حفظ أم ضيع، ليستوثق منهم ما هم عليه من يقين، وما يحكم حياتهم من منهج وتشريع، ليوصيهم وصيته الأخيرة، ويرجوهم ألا يسودوا وجهه يوم تبيض الوجوه، فإن مصيره معلق بهم، ويداه ورجلاه مغلولة إلى عنقه لا يفكها إلا حسن رعايته لأبنائه، وعظيم رعايته لهم، فإذا أدى ما عليه وحافظ على الأمانة عفا الله تعالى عنه فيما دون ذلك، وغفر له ما كان خارج إرادته وفوق طاقته.