الجريدة اليومية الأولى في البحرين


أفق


بوخارين ومصيرُ روسيا (2)

تاريخ النشر : الجمعة ٩ مارس ٢٠١٢

عبدالله خليفة



الروس مثل بقية الشرقيين في تصوراتهم بنقل الديمقراطية والرأسمالية والاشتراكية أو حتى نماذج الأديان حيث يتم تصور ذلك بالشحن كما تُشحن الثلاجات والسيارات من مناطق الاستيراد.
لكنهم في واقع التاريخ الحقيقي يُركِبون قراراتهم السياسية الاقتصاديةَ على بُنى قديمة هي البنية التقليدية التي لم تتغير.
إن الأشكال (الاشتراكية) من قراراتِ تأميماتِ المصانع والبنوك وإيجاد الزراعة التعاونية في الثلاثينيات في روسيا، هي تكوين مؤسسات عامة مملوكة للدولة، التي تغدو فجأة أكبر مالك للسلع ووسائل الإنتاج، تصبحُ هي الرأسمالي العام الأوحد، وبدلاً من عدة رأسماليين متنافسين يظهر رأسمالي واحد يلغي الآخرين. ثم هي التي تخرجُ من ثقوبها الرأسماليين الحكوميين فيما بعد.
الناس هنا لا يمتلكون رأسَ المال، وهم يعملون ويفكرون كأعضاء المجتمع القديم، الذي يكرسُ قوميته ويعلي دينه ويوظف أقرباءه، ويهتم بقبيلته، ويصعد منطقته، ويكرس مصلحته.
إن القوى المالكة لمختلف المواهب التي ارتفعت قديماً هي التي تصعد لجهاز الدولة أما القوى العاملة الأمية الفقيرة فلا تسيطر على شيء، وتصير الايديولوجيا الاشتراكيةُ افتراضيةً هنا، وتتجسد في كفاح عمال ومثقفين للحفاظ على الملكية العامة وتوزيع فوائضها، وتتكرس في نشر التعاون ومكافحة الفساد، لكن بنية الدولة القيصرية لم تلغ. الدولة الهائلة ازدادت تضخماً وغدتْ هي كل شيء، أجهزتها تتسع، وتضم المصانع والمزارع والبنوك والشرطة والجيش. وليس ثمة برلمان تعددي وأحزاب وجرائد حرة، كل شيء توجه ليكون حكومياً، وراحت الصراعات في المكتب السياسي للحزب تغدو هي الصراعات الشخصية الخطرة الوحيدة التي تجري وتصعد قيصراً وحيداً، بحكم مآل الدولة وسيرورتها فيغدو هو الرأسمالي الكلي. ولا يهم هنا زهده أو غناه، لأنه رمز للدولة التي تنمو في العمق والخفاء.
يوجه بخارين المسئول ورئيس تحرير أكبر جريدة من(1923 حتى 1929) الأنظار لتحقيق القيم الاشتراكية بشكلٍ مجرد، مثل الاشتراكية المجردة التي أسسها على الورق، ولم ينقد تنامي الديكتاتورية وغياب الحريات، فكانت هذه كرة الثلج التي تكبر.
الاشتراكية التي تجعل الأملاك عامة حقيقية للناس، لا تحدث بل يغدو هناك وكيل كلي عليها، وهو الذي يقررُ أشكال نموها، وبالتالي فإن الفوائض تتوجه لتغيير البناء الاقتصادي المعرفي المتخلف لكن بأشكال توزيع مختلفة، فتصعد فئاتُ البرجوازية الصغيرة وتتنامى مكاناتها بعسر، لكن الطبقة العاملة أكثر عسراً وفقراً وتبقى في ظروفها.
ما يجمد أوضاع الطبقتين المالكة والمنتجة هو جهاز الدولة الهائل فوقهما، الذي يحدث التطور الاقتصادي النهضوي الواسع، وينمي البيروقراطية وهي شكل البرجوازية التي سوف تظهر، ويجمد أحوال العمال الذين أقيمت بهم التضحيات والإنشاءات.
كان للثورة الروسية احتمال مهم كان يمكن أن يكون إنقاذياً، هو تشكيل رأسمالية دولة وطنية ديمقراطية، تضملا مختلف الطبقات، وبقيادة الأحزاب الاشتراكية، ليحدث النمو النهضوي التدريجي والصراع السلمي داخل السلطة، وتتحكم في حصص القيادة والتمثيل البرلماناتُ المنتخبة، لكن هذا الاختيار لم يظهر للتنافر الشديد بين الأحزاب ووجود فترة طويلة كلية من الاستبداد، فخرج الروس من استبداد متخلف إلى استبداد نهوضي كثير التكاليف والأثمان الفادحة، ثم عادوا إلى نقطة البداية وكأنهم يعيشون سنة 1917 نفسها مع مجتمع أكثر تطوراً ودولة استبدادية كبيرة.
بوخارين مفكر الحزب لم يستطع أن يرى أهمية الديمقراطية، لكونه عاش في فضاء اشتراكي متخيّل حزباً ثم نظاماً، وقد واجه العديد من الذين سوف يعدمهم ستالين فكرة الانقلاب في تلك السنة، مطالبين بتطوير فكرة الديمقراطية المشتركة بين مختلف الأحزاب الحديثة، لكن الأغلبية رفضت ذلك وأصرتْ على الانقلاب. ثم حين كبرت سلطة الانقلاب والدولة الشمولية راحت تبلع جميع القادة المؤيدين أصحاب الفكرة ومعارضيها، لأن الدكتاتور لم يقبل برؤى متعددة حتى داخل النظام.
رأسمالية الدولة تغدو مشكلة كبيرة مع تطورها، فتناقضاتها تزداد ولا تعرف كيفية الخروج منها، ولهذا فإن الصراع الطبقي يتزايد كما قال ستالين، لكن للخروج من مأزق رأسمالية الدولة حيث رأس المال تجمع في جهة واحدة بأدوات فوقية قوية بينما الشعب يغوص في الفقر. وتحدث الانفراجات النسبية حين يتم التخفيف من قبضة الدولة، لكن الخروج الكلي يتم في غالب الأحيان بفوضى أو حرب أهلية ونادراً ما تحدث الاصلاحات التحولية الديمقراطية المُنقذة لجميع الطبقات من الكارثة كما رأينا في العديد من التجارب العربية