الجريدة اليومية الأولى في البحرين


أفق


التمثلاتُ الأسطوريةُ في الحياةِ السياسية

تاريخ النشر : الاثنين ١٢ مارس ٢٠١٢

عبدالله خليفة



في رواية(عودة الروح) لتوفيق الحكيم نقرأُ لافتاتٍ أسطوريةً من الزمن الفرعوني يضعها المؤلفُ بين الفصول المتعددة، كهذه الفقرة:
(انهضْ يا أوزريس، أنا ولدكَ حوريس. جئتُ أعيدُ إليك الحياة لم يزل لكَ قلبك الحقيقي، قلبك الماضي)،(من كتاب نشيد الموتى).
الأسطورةُ تقومُ على البعث بأن يُحيّ الابنُ أباه الممزقَ المفتتَ الموزع على الأرض، وهي قد ارتبطتْ بالبعث الزراعي أيام الربيع وما يُسمى فارسياً النيروز.
توفيق الحكيم التحديثي الذي رحلَ إلى فرنسا وتأثر بالثورة فيها، تحمس للثورةِ المصرية سنة 1919 وألف روايتَهُ (عودة الروح)، وقد حاول أن يفهمَ الثورةَ الشعبية فما استطاع إلى ذلك بأدواتِ رؤيتهِ التعبيرية، فركب الأسطورةَ المصرية القديمة على الجسد الروائي الشعبي حيث العائلة البسيطة تعيشُ المشاركةَ في الطعام والحبِ وحتى في المرض.
طريقة توفيق الحكيم تشبه ما فعله الشعراء والسياسيون والدينيون في تركيب الماضي، والحكايات الشعبية والأسطورية والدينية على الأحداث السياسية، فهو لم يلتفت للفئات الوسطى المصرية التي تقودُ العامةَ في تلك العقود وفي تلك الأحداث، وكان واحداً منها، لكنه لم يشترك في حزب ولا خاض نضالاً، بل واكبَ الحدثَ وتأثر به، ولم يعرفْ أسبابَهُ وطرق تطوره.
الفئاتُ الوسطى حين تكون بلا عقل سياسي نظري تأصيلي يقرأ واقعها وظروفها ومطالبها وحركتها التاريخية، تلجأ إلى المواد القديمة السابقة، التي تعبرُ عن أزمنةِ حراكٍ سياسي اجتماعي يتملا بأدواتِ زمنه، سواء كانت أسطورية أو دينية أو واقعية، لأنها في حالة تداخل اجتماعي مع العامة، لم يبرز مضمونها الرأسمالي المتبلور، أو هي عاجزة عن تصعيده في الواقع لأسبابِ تطورها الاقتصادي ومحدودية أدوات إنتاجها غير الضاربة بعمق في الأرض التقنية، لكن أدوات تجارتها وبضائعها ومصانعها الأولى موجودة متناثرة في الأرض.
إن الأرضَ الاقتصادية السياسية ليست لها، والسوق ليست ملكا لها، وفي حالة توفيق الحكيم كانت السوقُ بيدِ الاستعمار البريطاني، يوجهُ السوقَ المحلية لإنتاج القطن لمصانعه.
الشعبُ في مثل هذا الوضع مشتتٌ، ممزق، مثل الإله أوزريس وهو بحاجةٍ إلى صوتِ حوريس يجمعُ أجزاءَهُ ويحيلهُ لكائنٍ حي يطردُ الشيطان!
إن هذا الطرحَ الأسطوري استمر طويلاً في ثقافة المشرق خاصة، لكون التطور الاقتصادي الحديث ظل متردداً، والفئات الوسطى ذات إنتاج تجاري أو بدائي حِرفي، فظلتْ في تلافيفِ الوعي الماضوي في الشرنقةِ المتعددةِ الرؤى والأفكار، فظهرتْ بشكل تموز العراق، والناصرية، وولاية الفقيه.
لم يكن لها زمنٌ طويلٌ تؤسسُ نهضةً صناعية فكرية متداخلة متنامية، فتطورُ حياةَ العاملين وتقودهم وهم في استقلالهم السياسي، بل ركضتْ للأدواتِ العسكرية تسلقُ التطورَ و(تجعلُ الكلَ في واحد) حسب النشيد الإسطوري الفرعوني، رافضةً أن يكون العاملون تكويناً آخر، فرأسمالها الصناعي لم يتكون بشكلٍ كبيرٍ عميق في التربة الاقتصادية، والاستعمار غزاها سابقاً ومازال يهددها، فتلجأ لأدواتِ القوة وتركض في الاقتصاد، وتستولي البيروقراطيات السياسية والإدارية على السلطات، فتضعُ قدماً في الاسطورة وقدماً أخرى في العصر، قدماً في الشمولية وقدماً في الواجهات التحديثية.
حكمُ(الكل في واحد) يصيرُ واحداً يختزلُ الكل. ولهذا فإن نماذجَ الواحد الذي يختصرُ الشعوبَ والأحزاب تغدو كثيرة حسب هذه التجارب المروعة الممتدة من المحيط إلى المحيط، لهذا تغدو عنزة غاندي أفضل بكثير من بندقية ماو، ويغدو الشرق بحاجةٍ إلى رموزٍ أخرى لا تَختصرُ، ولا تتأسطرُ، ولا تُخرف، وتؤكدُ أهدافَها الواقعية، وتعملُ بوضوح على تحقيقها وتصارع بجدل مشترك القوى الأخرى، في جدل المصالح المتباينة القومية والوطنية.
تمثلاتُ الكائنِ الخير المطلق والكائنِ الشرير المطلق صورتْ الوعي الاجتماعي وهو غيرُ قادرٍ على فهم ظروفه والعيش مع المختلفين، وأكدتْ دائماً صوتاً واحداً قاهراً هو رمزُ القدسيةِ والنور والطهر والحكم!