شرق و غرب
هل تنجح العقوبات في شل الاقتصاد الإيراني؟
تاريخ النشر : الاثنين ١٢ مارس ٢٠١٢
تصوروا رجلين يخططان على مدى أعوام للهروب من مصحة للأمراض العقلية معروفة بإجراءاتها الأمنية المشددة حيث انها محاطة بما لا يقل عن مائة جدار حصين. في الليلة الموعودة ؟ ليلة الهروب ؟ بلغ الرجلان الجدار التاسع والتسعين فسأل أحدهما الآخر: «ألم تتعب بعد»؟
أجابه الرجل الثاني: «نعم لقد أخذ مني التعب مأخذه».
عندها قفل الرجلان عائدين إلى زنزانتيهما كأن شيئا لم يكن.
هل القادة الإيرانيون مجانين إلى هذا الحد؟
في خضم المواجهة الحالية حول البرنامج النووي الإيراني نجد أن السياسة الغربية برمتها تنبني على الفرضية التالية: إن صناع القرارات في طهران هم أناس ولاعبون عقلاء كما أن حساباتهم المتعلقة ببرنامجهم النووي تقوم على نسبة الفائدة وحجم التكلفة. يعتقد صناع القرارات في الغرب أنهم إذا عملوا على زيادة التكلفة التي ستتحملها سلطات طهران فإنها قد تضطر في النهاية إلى التسليم بالأمر الواقع وتقديم التنازلات اللازمة.
إن الساسة الغربيين نصف محقين، فالغربيون يتوقعون أن تتصرف إيران بكل عقلانية وتوافق على القبول بحل وسط تحت وطأة الضغوط والعقوبات المشددة غير أنهم لا يدركون موقف نظام طهران من الثمن الذي يعرف أنه يتعين عليه دفعه حتى يستكمل البرنامج النووي وما قد يجنيه من فوائد بعد ذلك. فالساسة الإيرانيون يعتبرون أن العقلانية والواقعية تحتمان عليهم تسريع البرنامج النووي ورفض أي اتفاق قد يكون الغرب مستعدا لتوقيعه معهم.
إن مختلف السوابق التاريخية تظهر أن صناع القرارات الإيرانيين يأخذون في اعتبارهم حاليا الجدوى والكلفة، ولعل أشهر الأمثلة القرار الذي اتخذه آية الله الخميني بالموافقة على اتفاق وقف إطلاق النار مع العراق في صيف .1988
لقد ظل الخميني قبل ذلك يرفض تلك الامكانية مرارا وتكرارا حيث انه كان يعتبر أن إلحاق الهزيمة بعراق صدام حسين يرقى إلى الواجب الديني. رغم ذلك فقد اضطر في نهاية المطاف إلى القبول بالأمر الواقع وينسى مسألة الواجب الديني من أجل تفادي التعرض لأضرار أكبر. لقد كان بإمكان آية الله الخميني أن يقبل بتلك الحسابات والاعتبارات البراجماتية سنة 1982 بعد مرور عامين على انطلاق تلك الحرب الدامية حيث ان إيران كانت قد نجحت في استعادة كل الأراضي الإيرانية التي سيطر عليها الجيش العراقي بعد الهجوم المباغت في سبتمبر .1980
لقد كان الإيرانيون يدركون جيدا أن الجيش الإيراني ما بعد ثورة 1979 كان يعاني انعدام الجاهزية ونقص التجهيزات والتسليح لخوض حرب ضد جيش عراقي أفضل جاهزية وأحسن تسليحا.
لقد اختار آية الله الخميني التضحية بأرواح مئات الآلاف من الشبان في صراع بالغ الدموية يذكر بفظائع الحرب العالمية الأولى. لقد كان القادة في طهران يعتقدون أن الحرب يمكن أن توفر لهم غطاء هم في أمس الحاجة إليه من أجل تركيز حكومتهم التي كانت آنذاك تعاني الهشاشة بما يمكنهم من القضاء على بقايا المعارضة المناهضة للحكم الإسلامي الخميني الجديد.
لقد اتخذ الخميني قرارا بإنهاء حرب الثمانية الأعوام الدامية ضد العراق عندما تبين له أن الجبهة توشك أن تنهار وأن الغضب المتنامي بات يهدد بتقويض حكمه. بعبارة أخرى كان القرار الذي اتخذه الخميني سنة 1982 واقعيا كما أن القرار الذي اتخذه الخميني بإنهاء الحرب ضد العراق سنة 1988 كان يتسم بالواقعية أيضا. غير أن الفرق ما بين 1982 و1988 بلغت تكلفته نصف مليون قتيل كما أن إيران كانت قد أوشكت على الانهيار.
لقد لعبت المخاوف الهستيرية أيضا دورها، فالحادث العرضي المتمثل في إسقاط طائرة تجارية إيرانية في الخليج من قبل بارجة حربية أمريكية قد جعل القادة الإيرانيين يقتنعون بأن الولايات المتحدة الأمريكية كانت مستعدة للذهاب إلى أبعد مدى والقيام بأي شيء من أجل إلحاق الهزيمة بإيران في تلك الحرب الدامية. لم يكن ذلك الحادث متعمدا غير أن نظرة القادة الإيرانيين للعالم ومخاوفهم الهستيرية هي التي صورت لهم بأن الولايات المتحدة الأمريكية مستعدة لارتكاب القتل والجرائم من أجل إلحاق الهزيمة بإيران. لاتزال هذه المخاوف الهستيرية موجودة حتى اليوم وهي تدخل في حسابات الجدوى والثمن في طهران.
لم تكن الحرب بين إيران والعراق المثال الوحيد الذي أظهر إقدام القادة الإيرانيين على اتخاذ القرار الصائب والواقعي بعد استنفاد كل الخيارات الأخرى، ففي سنة 1997 أدرك نظام طهران أن مواصلة ملاحقة المعارضين الإيرانيين في بلاد المنفى في العالم وتصفيتهم جسديا قد عادا بنتائج عكسية غير أنه لم يقرر إعادة النظر في تلك السياسة إلا بعد أن شن حملة واسعة من الاغتيالات وبات يصعب على سلطات طهران إنكار الأمر.
لقد أصدرت محكمة ألمانية قرارا بإدانة القتلة المأجورين الإيرانيين ثم وزير المخابرات الإيراني علي فلهيان بتهمة الضلوع في المذبحة التي ارتكبت سنة 1992 في أحد المطاعم في برلين. قررت الدول الأوروبية آنذاك سحب سفرائها من طهران كما قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع إيران. لقد اضطرت ايران مرة أخرى إلى الركوع على ركبتيها وعندها فقط اضطرت إلى اتخاذ قرار يتسم بالواقعية والبراجماتية.
ما هي الدروس المستفادة من هذه السوابق التاريخية في التعامل مع إيران؟
لقد بلغ القادة الإيرانيون الجدار التاسع والتسعين في سعيهم إلى امتلاك الأسلحة النووية. مهما تكن صعوبة المرحلة المتبقية والقفزة الأخيرة فإنها لا تقارن بالطريق الصعبة والشديدة الوعورة التي سارت فيها سلطات طهران على مدى الأعوام الثلاثين الماضية من أجل امتلاك الأسلحة النووية.
ما الذي يجعلنا اليوم نتوهم بأن إيران قد تتخلى الآن عن طموحاتها النووية في وقت بدأ فيه هذا الهدف يلوح لها في الأفق؟
ثم لماذا يتوهم الغرب أن الصعوبات الاقتصادية والمعاناة الاجتماعية قد تدفعان نظام طهران إلى إعادة النظر في سياساته النووية في وقت يوشك فيه على استكمال رحلة ثلاثين سنة؟
بقطع النظر عن مدى قساوة العقوبات الاقتصادية والتجارية والنفطية المفروضة الآن على إيران فإن نتائجها الفعلية لن تظهر على أرض الواقع إلا إذا اضطرت سلطات طهران إلى الخنوع والركوع على ركبتيها مرة أخرى. يجب أن يكون الضرر الذي تلحقه العقوبات بإيران أكبر وأشد إيلاما حتى لا يبقى لنظام طهران من خيار آخر سوى التراجع.
إن إيران لاعب عقلاني رغم كل شيء لكن المؤكد أنه لا يمكن ردع نظام طهران في هذه المرحلة المتقدمة من النظام النووي الإيراني ما لم يتم اللجوء إلى إجراءات مشددة وأكثر إيلاما.
إذا كانت القوى الغربية تأمل أن تتفادى المواجهة العسكرية في منطقة الخليج والحيلولة بالتالي دون تحول إيران إلى دولة نووية فعلية فإنه يجب عليها أن تشدد العقوبات حتى تشل الاقتصاد الايراني ودفعه بالتالي إلى حاوية الهاوية. يجب أن تشمل هذه العقوبات المشددة فرض منظمة الأمم المتحدة حظرا شاملا على النفط الإيراني وضرب حصار بحري على الجمهورية الإسلامية مع تعميق عزلة نظام طهران دبلوماسيا. يجب على القوى الغربية أن توجه تحذيرا شديد اللهجة إلى إيران من مغبة أي محاولة للقفز فوق الجدار الأخير والتأكيد بالتالي أن الغرب على كامل الاستعداد لإلحاق أضرار فادحة بإيران واقتصادها ومنشآتها وهو قادر على ذلك. إذا لم تشدد العقوبات ويكون تأثيرها مؤلما فإن القادة الايرانيين سيعتبرون أنه من الأفضل لهم مواصلة البرنامج النووي وعدم التوقف عند الجدار الأخير.