الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٤٠٨ - الثلاثاء ١٣ مارس ٢٠١٢ م، الموافق ٢٠ ربيع الثاني ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

قضايا و آراء


روسيا وبوتين وتحولات المشهد الدولي القادم





شهدت روسيا في الأيام القليلة الماضية انتخابات الترشح لمنصب رئاسة البلاد ولكن قبل الشروع في ملامسة نتائج الانتخابات لابد من ملامسة صورة التفكير الجمعي السائد في الحياة الروسية في هذه المرحلة ومدى التحولات الفكرية والتغيرات التي حصلت في مفاهيم تلك الأمة منذ تفكك الاتحاد السوفيتي مروراً بوضع البلاد الراهن، فكل متتبع يعلم أن روسيا كانت المركز والرأس لتلك الإمبراطورية الكبرى التي شكلت تقريباً نصف كيان العالم جغرافياً تحت مسمى منظومة دول الاتحاد السوفيتي، وبعد تفكك ذلك الاتحاد خرجت تلك البلدان لتكافح في لملمة واستعادة تاريخ كياناتها بشكل مستقل كل على طريقته، فمنهم من لم يُقاوم محاولات الغرب الأوروبي لاستلاب وتغيير مفاهيمه الثقافية والاقتصادية ومنهم من ظل متذبذبا بين ما هو ثابت من قيم موروثة واستقلالية قرار وبين ما تقتضيه المرحلة من دواعي اقتصادية ملحة بالتسليم للغرب الأوروبي وحليفته الولايات المتحدة بالتبعية والانبهار ومنهم من لم يجد وسيلة تستهوي الغرب للالتفات له نتيجة لافتقاد أراضيه الطاقات اللازمة التي تستهوي أوروبا الرأسمالية لمد اليد له واحتضانه، أما روسيا ذات الثقلين الإداري والعقدي للهوية الاشتراكية فإنها وجدت نفسها مكبلة بين ضرورة احترام الهيبة التاريخية الموروثة لروسيا القياصرة وبين الانسلاخ من مشاعر تلك الهوية التي لربما هي أحوج لها اليوم من أي وقت مضى كضرورة للحفاظ على كريزما الهوية من الذوبان، فالتسليم للغرب وللامبريالية بالتبعية يعني ما يعنيه من ضرورة التراجع عن حدة الاعتزاز بذلك التاريخ وأنفته سوى ما كان منه في ظل الاشتراكية التي شكل كيان روسيا احد ابرز ركائز ثقلها أو في ظل تاريخ روسيا القديم نفسه والمليء بالهيبة والسطوة، ومع وضوح ميل المفكر والسياسي الروسي لتبني إعادة الاعتزاز بالروح الروسية بعد مرحلة الانهيار فإنهما في الظرف نفسه يُسلمّان بحاجة روسيا الماسة إلى التحفظ والتراجع عن إظهار نبرة مثل ذلك بسبب ما تفرضه مقتضيات الأوضاع من ظروف اقتصادية كانت بالغة في الصعوبة وقد ظل الوضع على ذلك التحفظ فترة من الزمن مع السعي الحثيث لإيجاد ذات وشكل لروسيا في ثوب رأس مالي جديد منفتح على ثقافات العالم ومن دون تبعية أو ذوبان أمام أي هوية خارجية، ويبدو فعلاً أن روسيا أخذت تخرج من ثوب الاشتراكية إلى ثوب الرأسمالية والديمقراطية المحافظة عبر ذلك التوازن الحذر في التحول، ومن خلال الرصد يتضح أن ذلك المنحى أستصحب محاولات لإعادة إشباع الحاجة الروحية للأمة الروسية بعد فراغ مُفاجئ خلّفه انهيار منظومة القيم الشيوعية مما استدعى منظري الأمة الروسية للرجوع بها وبأجيالها لاستحضار تاريخها إلى ما قبل مرحلة الاتحاد السوفيتي والى استحضار الشكل الثقافي للأمة وهي في أوج حضور مرحلة روسيا القيصرية الطابع ويأتي استحضار التاريخ هنا اقله للتحقيق عاملان، الأول: هو رفع الروح المعنوية للأمة وتعزيز الشعور الجمعي للأفراد بتاريخهم ثم محاولات التأكيد أن روسيا هي امة قبل وبعد الاتحاد السوفيتي وبه ومن دونه وهو ما يُعزز بدوره تثبيت الهوية وتجديد ضخ دمائها بين الأجيال، والأمر الثاني: وهو محاولات بناء الأمة بشكلها وحجمها الذاتي والبحث عن هويتها التاريخية الخاصة بها، وفي ضوء ذلك التحول يتضح أن الواقع الاجتماعي الروسي دخل بعد مرحلة انهيار الاتحاد السوفيتي عدة مراحل متحولة وسريعة منها مثلاً مرحلة الانكفاء والتشتت في القرار ثم انتقل بعد ذلك إلى مرحلة استعادة صياغة التوجهات وقد قطعت روسيا في تقديرنا شوطاً لا باس به في ذلك واستطاعت التعاطي مع ثقافة الآخر من الأمم وهي الان جادة في استعادة حضورها ككتلة حقيقية مؤثرة في صياغة مجريات الأحداث في العالم، فقد حاول الروس في محاولة الانفتاح على العالم برؤيتهم المستجدة التخلي عن عصبية التمسك بفكرة الاشتراكية وبمبادئها وقيمها لكنهم كما تقدم لم يغفلوا أن ذلك لا يصلح إلا بتوفير البديل من منظومة أخرى للقيم وذلك لتحاشي الوقوع في إشكالية الفراغ الروحي للأمة خصوصا ان الغرب الأوروبي يسعى لملء ذلك الفراغ بأساليبه وأدواته، كما أن المتتبعين لما يدور في الواقع الروسي يرصدون أن الروس وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي سعوا لإرضاع أجيالهم بشعور الامتعاض والكراهية لأساليب الغرب الأوروبي وانتهازيته مما حملهم على الدفع والتجديد لمفهوم عقدي ديني بديل عن الماركسية الاشتراكية وقد تأتى ذلك باستنهاض الشعور المذهبي المسيحي الارثودكسي واعتبار انه يُمثل الحقيقة المسيحية الحقة الموروثة عن المسيح بدلا من الكنيسة المسيحية الكاثوليكية التي يتدين بها معظم شعوب الغرب الأوروبي، كل ذلك النهج في تقديرنا لم يتأت من قبل مفكري الروس عن فراغ وإنما جاء كحاجة سياسية وتاريخية ماسة لاستعادة روسيا لثقتها بنفسها وبتاريخها وكي تتصدى لإيقاف زحف الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين لاستلاب روسيا بتاريخها ومقدرتها في مرحلة من مراحل ضعف تاريخية قد تدخلها أي امة واليوم يتضح أن روسيا وبوتين قد يشكلان إيقونة عصية على الاستلاب، إن نتائج الانتخابات الأولية أثبتت فوز بوتين على منافسيه الآخرين رغم أن بوتين قد حكم روسيا مرحلتين متتاليتين من دون انقطاع وهو ما يجيزه الدستور الروسي كغيره من الدساتير الديمقراطية المعروفة بالعالم ثم جاء بعده مستشاره ومساعده الشاب مدفيديف لرئاسة روسيا وقد ذهب معظم المراقبين إلى أن بوتين هو الحاكم الفعلي لروسيا من خلف مدفيديف وانه هو من يصنع سياسة روسيا الحقيقية من وراء الكواليس كما أن الولايات المتحدة والغرب ربما أدركوا أن بوتين شخص برغماتي طويل النفس وانه استطاع فعلاً الخروج بروسيا من عنق الزجاجة وأن الرجل في واقع الحال قد شخص حاجة روسيا للمهادنة والتماشي مع بعض التوجهات الغربية نظراً لأوضاع روسيا التي كانت مهلهلة بعد التفكك ونتيجة للظروف العالمية والشعور الدولي الذي ساد آنذاك بنشوة الغلبة والتفرد الأمريكي الغربي لقيادة المشهد الدولي ورغم ذلك التكيف فإن روسيا لم تتخل بين الحين والآخر عن رفع صوتها في القضايا الدولية لتأكيد عدم تجاهل دورها في صياغة القرار الدولي لكن البعض يذهب إلى عدم التعويل على الدور الروسي إذ يشهد له تاريخه بالمتاجرة السياسية وانه لا يتبنى مواقف حقيقية داعمة تجاه حلفائه وقد يكون ذلك التشخيص صحيحا إلى حد ما لكننا نعتقد تحوله نتيجة لما تفرضه التغيرات الدولية من اهتزازات في توازن ميزان القوى العالمي ، ومن الواضح هنا أن فوز بوتين بغالبية الأصوات ومن بعده ممثل الحزب الشيوعي يأتي مؤشراً يعكس ميل الشارع الروسي للإبقاء على هيبة روسيا وضرورة جعل موقعها الدولي حاضرا ومؤثرا بقوة في المحافل وان رافق ذلك صعوبات اقتصادية مرحلية ، وما يعنينا حقيقة من تناول وضع روسيا وفوز بوتين هو مدى تأثير ذلك فيما جرى وسيجري في منطقة الشرق العربي في السنين القادمة ففي تقديرنا أن فوز بوتين سيعزز من مواقف روسيا وسيؤكد من إصرارها على المُضي قدماً في نهج سياستها المستجدة من دعم لحلفائها في المنطقة وبشكل علني صريح، إذ ان الروس يُدركون اليوم جيداً وبعيداً عن سياسة الاتحاد السوفيتي السابقة أن الولايات المتحدة وحلفاءها قد فقدو فعلياً زمام السيطرة على مقاليد إدارة ملفات التدخلات الدولية وهو ما نعتقد أنهم يرون فيه فرصة سانحة للسعي لتوسعة فجوة ذلك التراجع وعليه فان الروس سيدفعون بكل قوة لدعم حلفائهم في هذه المرحلة حتى لو اضطروا لاستخدام آخر فيتو في لعبة الصراع الدولي كما إن ذلك النهج سيُعزز من حقيقة تشكل عالم جديد من الأحلاف والاصطفافات في منطقة الشرق الأوسط، وفي تقديرنا إن روسيا في خضم كل تلك التحولات الدولية هي اليوم لا تبحث عن امتيازات اقتصادية مرحلية على قدر ما هي جادة في الحصول على نفوذ سياسي أكثر حضورا وتميزا في المنطقة، وفي خضم الاستعداد لتبني مثل تلك التوجهات فقد خصصت حكومة روسيا للسنوات العشر القادمة استقطاعا ضخما من الموازنة المالية العامة لدعم وتطوير التصنيع العسكري خصوصاً ما هو متعلق منه بالمجال الالكتروني والاتصالات وهو ما يعني أن روسيا في أضيق الحالات ستجعل من نفسها مخزنا استراتيجيا عسكريا متطورا مستعدا لتمويل كل مناهض لتوجهات أمريكا والغرب في المنطقة ، وعلى ضوء كل تلك المؤشرات فإننا نعتقد أنه في العشر السنوات القادمة سوف تشهد منطقة الشرق والعالم تحولات جذرية من التوازنات.



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة