أفق
الليبرالية والصعابُ السياسية
تاريخ النشر : الثلاثاء ١٣ مارس ٢٠١٢
عبدالله خليفة
دفعتْ الأنظمةُ القوى الليبراليةَ واليسارية إلى أحضان المذهبيين المحافظين.
فعبر تحجيمهم وإلغاء منابرهم قادتهم إلى التوحد مع الجنون السياسي.
ليس المذهبيون السياسيون سوى جنون اجتماعي، حيث تؤدي الاضطراباتُ الاقتصاديةُ والاجتماعية إلى فقدانِ الناس أعصابهم السياسية واتزانهم، وتدفعُهم المشكلاتُ وضياعُ الفائض الاقتصادي إلى أن يسيروا حسب غرائزهم ومصالحهم اليومية المحدودة بتشنج.
وهكذا فإن الأنظمة في إدارتها الحادة كانت تقود إلى خطوات معاكسة لما تريده.
الميراث القديم المحافظ متعدد وفوضوي الوجود ومتعدد الابعاد، يمكن أن يستغلهُ إرهابي عالمي وصبي، وحين يتوسع الجنون الاقتصادي الاجتماعي يفقد العقلاء عقولهم.
والأكثر خطأً حين تستعين الأنظمةُ والقوى الغربية بفصائل من المضطربين والضائعين، بحيث تصبح الاضطرابات قارية واسعة النطاق.
على مدى العقود الماضية رأينا هذه السياسات، وكيف حُوصرتْ المنطقةُ ببلدانٍ نازفةٍ من حروبها الطائفية السياسية.
كان السير في الخط الليبرالي الديمقراطي أصعب عليهم، وكان يتطلب سماع الانتقادات وقوة البرلمانات وتجذر الصحافة الحرة والحداثة ذات المصروفات العالية في التعليم بدلاً من تعليم الحفظ والعصا، وتوجيه الدخول نحو وزارات الخدمات، لكن التوجه للمحافظة السياسية لا يكلفُ سوى ترك الأوضاع القديمة تبتلعُ الأزهارَ التحديثية الصغيرة النابتة بصعوباتٍ من بين الصخور الاجتماعية.
الآن تتعاظم أخطارُ هذه السياسات وتتوسع، وينضم ضحايا جدد من البلدان والشباب للغات البسيطة الحادة في فهم السياسة، ولا يجدون برامج تحول حقيقية.
أصحابُ المصالحِ لا يرون سوى أعمالهم الخاصة، وداوئرَهم الضيقة، فتمتلئ الشوارع بالعمال الهاربين، والقادمين من شتى البلدان يساهمون في اقتصاديات ليست حرة بل فوضوية، فثمة فروقٌ بين اقتصادياتٍ تؤسسها الخططُ الوطنية والرقابات البرلمانية والصحافة الديمقراطية وبين اقتصادياتِ الأقسام المنفصلة عن بعضها بعضا، والمتصادمة بين فيضٍ مجلوبٍ وغير مراقب وصادم للانكماش التوظيفي الوطني، إضافةً لمحدودية الطرق والخدمات العلاجية والتعليمية وتنامي الايجارات وتباطؤ النمو الاقتصادي.
الليبراليةُ تصيرُ حريات اقتصادية تؤسسها دولٌ لديها ملكيات عامة ضخمة وحرة في الاستيراد والتصدير وليس في التوزيع الأهلي، وتنكمشُ ليبراليتها مع مراقبة المال العام وتغيير طابع الملكيات العامة البيروقراطية، وتغدو الليبراليةُ مصالحَ خاصة لا تقبل المساهمة في تطوير القوى السكانية المنتجة وأوضاعها المادية والثقافية.
فتصير البلدانُ حصالاتٍ تضيقُ فيها المشروعات العامة وتتسعُ المشروعاتُ الخاصةُ العلنية والباطنية.
الرأسمالية العامة الهائلة النفوذ والرأسمالية الخاصة المُحاصَرة لا تكونان بنيةً منسجمةً متكاملة، وهذا يتكشفُ في ذروة المرحلة الراهنة التي تعانيها الدول ذات رأسمالية الدولة التي تجاوزت الخمسين عاماً.
رأسمالياتُ الدول الثنائية المتناقضة تغدو متأزمة، وثقافةُ الاحتكار والنفوذ الطويل لا تنتجُ ليبراليةً، في حين أن الرأسمالية الخاصة المحاصرة لا تستطيع أن تغامر في السياسة وفي إنتاج ثقافة ليبرالية تنويرية ناقدة للمشكلات تعرضُ نفسَها للمساءلات.
تكسب السوقَ الكاسدةَ من القيم الليبرالية ومن الديمقراطية الفئاتُ البرجوازيةُ الصغيرة التي لا تملك رساميل، وتتاجرُ برأسمالها الايديولوجي وهي تتطرفُ بشعاراتها وتزايد حتى تظهر بقوة للمتضررين من الرأسمالية الحكومية ومن عجز تطورها عن تغيير السوق وتطوير البنية الاجتماعية التي تغدو مشوهةً ومتضررةً في جوانب عدة ومتضخمة في جوانب أخرى عمرانية غالباً.
إن خوفَ الرأسمالية الخاصة من المغامرة برساميلها في إنعاش حال الفقراء والمساهمة في التغيير بفكرها وفعلها يمنعُ تحولَ الليبرالية الاقتصادية إلى ليبرالية الثقافة والسياسة.
هنا تستفيد الفئاتُ البرجوازية الصغيرة مدحاً أو ذماً، مبالغة ونفخاً وإثارة، ورقصاً على الحبال، أو إنتاجاً فكرياً عميقاً صعب الحفر وصعب الانتشار والتأثير.
الجسمان الأساسيان لليبرالية وهما القطاع العام والقطاع الخاص لم يكونا شبكةً موحّدة، وبنيةً متداخلةً ذاتَ قوانينِ سوقٍ واحدة، تلعب فيها البرلماناتُ دورَ المايسترو الذي يشكل اقتصادا وطنيا، فتجمعُ البناءَ الاقتصادي والبناء السياسي في خط الحرية والخدمات الوطنية.
من يفعل هذا التوحيد غالباً هو الجمهور العادي الذي يتضرر من التشكيلة الرأسمالية عامةً ويتضررُ بشكلٍ أشد من عدم تكونها المنسجم، واندماج قسميها المتناقضين، وتوحد قوانين الأسعار والأجور.
ولهذا يغدو الفعلُ السياسي المذهبي جنوناً حين لا يتكشف البنية، ويصيرُ وعياً ديمقراطياً عبر انسحابه من المذهبية السياسية التي هي نتاجُ إضطراب البنية وعدم توحدها، ويغدو أفعالاً معبرة عن مختلف المجموعات الاجتماعية ذات المصالح المشتركة.