الجريدة اليومية الأولى في البحرين


قضايا و آراء


حتى لا تغرق سوريا في أتون الجحيم

تاريخ النشر : الثلاثاء ١٣ مارس ٢٠١٢



تواصل سوريا انحدارها الطويل والبطيء نحو أتون الجحيم مع تفاقم مآسي العنف والقتل. بعد مرور سنة على بداية هذه الفظائع المرعبة بات من الواضح أن أي طرف لن يحقق نصرا سهلا في هذه المواجهة، ما يؤكد بالتالي تلك المقولة المأثورة: «لا غالب ولا مغلوب».
في البلدان التي تعاني الانقسامات العميقة يتداخل العديد من السيناريوهات وتتقاطع وتتشابك:
1 - السيناريو الأول: يمكن أن تتولى مجموعة معينة الحكم وتمارس القمع على بقية مكونات الطيف الاجتماعي والسياسي، على غرار ما حدث ويحدث في سوريا، مثلما حاولت فئة معينة أن تفعل في العراق وخاصة أن البعض يعتقد أن العراق يتجه إلى هذا المصير نفسه من جديد.
2- السيناريو الثاني: قد تنشب الحرب الأهلية وتدوم فترة طويلة (على غرار ما حدث في لبنان من قبل حيث استمرت الحرب الأهلية ما بين سنتي 1975 و1990).
3- السيناريو الثالث: يمكن التوصل إلى هدنة هشة تمهد لقيام توافق مؤقت بين مختلف الأطراف والجماعات (على غرار الوضع القائم الآن في لبنان).
4- السيناريو الرابع: يمكن إرساء دعائم ديمقراطية ناشئة تكرس الاندماج وحقوق المواطنة المضمونة للجميع.
تتخبط سوريا في الوقت الراهن ما بين السيناريوين الأول والثاني. لقد تصرف النظام الحاكم في دمشق بطريقة شنيعة وحقيرة، فعندما وجد نفسه يواجه حركة احتجاجية سلمية إلى حد كبير لجأ إلى استخدام أشد أساليب القمع من أجل إخماد أصواتها. لم تؤد هذه السياسة القمعية إلا إلى مزيد من تأجيج المعارضة المناوئة لنظام دمشق، حيث إنها ردت الفعل ولجأت إلى حمل السلاح، الأمر الذي حول الحركة الاحتجاجية السلمية إلى انتفاضة مسلحة. وفي الحقيقة فإن الخطوة الرامية إلى عسكرة الحركة الاحتجاجية السلمية قد خدمت مصلحة نظام دمشق الذي اتخذ من ذلك ذريعة من أجل تبرير لجوئه إلى مزيد من القوة الوحشية والقتل من دون هوادة.
أدرك نظام دمشق بعد ذلك أنه لا مناص من إحداث بعض التغيير فطرح عدة مبادرات إصلاحية «شكلية». لقد جاءت هذه المبادرات في شكل إملاءات كما أنها كانت في الحقيقة ترمي إلى حماية وجود نظام دمشق نفسه. لذلك فإنها قوبلت بالرفض من المعارضة التي اعتبرت أنها «إما قليلة وغير كافية» وإما أنها «جاءت متأخرة» وإما أنها تمثل مجرد مناورة لاستدراج المعارضة وإسكات صوتها.
لقد أثبت نظام دمشق أنه مجرد طغمة عسكرية أكثر منه حكومة تسوس وترعى شؤون البلاد والعباد. إن حزب البعث الحاكم تحول بدوره إلى مجرد قوقعة فارغة ومتكلسة تتحكم بها مجموعة فاسدة وتديره أطراف بيروقراطية برهنت على أنها جماعة ايديولوجية ومكونات حزبية مرعوبة أكثر منها موظفين يكرسون جهودهم في خدمة البلاد.
أما المعارضة على هيئتها الحالية فإنها تعاني بدورها الانقسامات ومواطن الخلل الكثيرة، فقد قام ائتلاف يضم أقطاب المعارضة في المنفى تحت اسم المجلس الوطني السوري.
أما في داخل سوريا نفسها فإن هناك العديد من الشخصيات والجماعات المعارضة التي ظلت تواجه القمع والاستبداد على مدى عقود من الزمن غير أنها لاتزال تجتمع من حين لآخر وتعبر عن آرائها وقد انضمت إليها لجان تنسيقيات النشطاء الذين يتحركون في العديد من المدن السورية. إن هذه الجماعات الناشطة هي التي تتولى تنظيم المظاهرات التي تشهدها الشوارع السورية وإرسال الأخبار والمعلومات خارج البلاد.
شهدت الفترة القصيرة الماضية أيضا انسلاخ العديد من الضباط والجنود عن الجيش وانقلابهم على نظام دمشق، إضافة إلى انضمام بعض العصابات المسلحة؛ بعضها من إفرازات الساحة الداخلية والبعض الآخر جاء من الخارج. إن هذه الجماعات بخاصة هي التي أدت إلى عسكرة الانتفاضة المناهضة لنظام بشار الأسد.
لقد بات واضحا أن النظام الحاكم في دمشق قد فقد الشرعية الضئيلة التي ربما تكون قد تبقت له لدى بعض شرائح الشعب السوري وذلك بسبب السياسات القمعية التي ينتهجها غير أنه لايزال يحظى بدعم بعض الجماعات السورية المهمة، فالمعارضة غير مستعدة حتى الآن كي ترتقي إلى مستوى «اللحظة المهمة» كما أنها لا تمثل كل أطياف المجتمع السوري. لذلك فقد بدأت هذه الحالة الفوضوية تخرج تدريجيا عن زمام السيطرة من دون أن يلوح أي بصيص أمل في آخر النفق.
لعل ما ينذر بالشؤم ان الصراع داخل سوريا قد بدا في وقت من الأوقات ما بين الفصائل المتناحرة التي تحمل «رؤى» متنافسة قبل أن يتحول الأمر الآن إلى صراع إقليمي عربي إيراني وصراع بين الشرق والغرب حول سوريا إضافة إلى وجود أبعاد طائفية في الأزمة السورية. وفي الوقت الذي تحصل فيه المعارضة على دعم جامعة الدول العربية وتركيا والغرب فإن نظام دمشق قد استمد قوته من الدعم الذي تقدمه له روسيا والصين وإيران وبقية حلفاء طهران.
لعل ما يثير الإحباط في كل هذا أن كل الأطراف المشتركة أو تلك التي بدأت تدخل تدريجيا لم تقدم اي إضافة جديدة تذكر لهذه المعادلة.
أما أولئك الذين ينادون بتقديم مزيد من الأسلحة للمعارضة فإنهم لم يقدموا إجابة شافية عن الأسئلة الجوهرية: تقديم الأسلحة لمن؟ ثم لأي هدف؟ في شهادته أمام لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي قال مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية جيفري فيلتمان إن تسليح المعارضة بمثابة «صب الزيت على النار» وحذر من العواقب الوخيمة والمأساوية التي قد تنجم عن مثل هذه الخطوة. يجب أيضا على حلفاء نظام دمشق والأطراف التي تزوده بالأسلحة أن تتحمل مسؤولياتها. لقد تجاوزت الأزمة السورية «الخط الأحمر» لذلك فإن مزيدا من القمع ؟ قليلا كان أم كثيرا - لن يفلح في إعادة إرساء «النظام القديم» في سوريا ولن يؤدي إلا إلى إلحاق المزيد من الدمار بالبلاد وإزهاق المزيد من أرواح أبناء الشعب السوري.
الآن وقد خرجت الأزمة السورية عن زمام السيطرة أكثر من أي وقت مضى فقد باتت الحاجة تدعو إلى دور تلعبه الولايات المتحدة الأمريكية (بالتنسيق مع جامعة الدول العربية وتركيا) كما يمكن لروسيا والصين أن تلعبا أيضا دورا في الصدد نفسه.
في ظل صعوبة تحقيق السيناريو الرابع فإنه قد يكون من الأفضل في هذه المرحلة العمل على إرساء هدنة حتى إن كانت هشة ومنقوصة بما يمهد للدخول في مفاوضات تفضي إلى صيغة جديدة للحكم. قد يكون هذا السيناريو البديل الوحيد الممكن الذي يجنب سوريا الانزلاق في حرب أهلية ودموية قد تؤدي تداعياتها إلى زعزعة استقرار كامل منطقة الشرق الأوسط.
كيف يمكن الوصول إلى هذا البديل؟
إن كلا الطرفين في حاجة إلى من يدفعه دفعا بكل قوة. من الضروري جدا إعلان وقف فوري لإطلاق النار والالتزام بالدخول في مفاوضات تفضي إلى تشكيل حكومة انتقالية في دمشق. في الوقت نفسه لا يبدو أن النظام ولا أطراف المعارضة ستقبل بمثل هذه المقاربة بسهولة، حيث إن كل طرف يعتقد أن الكفة سترجح لفائدته وأن الانتصار سيكون إلى جانبه. هنا يبدأ الحديث عن التدخل.
يجب أن يدرك المقاتلون أن استمرار المواجهة المسلحة لا يمثل فقط خيارا لن يخرج منه أي طرف منتصرا كما أنه سيشكل خطرا يتهدد السلام الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط.
إن القبول بالهدنة والمفاوضات قد يتطلب حزمة من الحوافز أو التهديدات أو تعليق الدعم. إن القبول بالهدنة وبالتالي المفاوضات بات يمثل ضرورة ملحة. لن يكون ذلك سهلا غير أن استمرار انزلاق سوريا في أتون الحرب الأهلية سيكون أمرا أكثر صعوبة ومأساوية.
* رئيس المعهد العربي الأمريكي