الجريدة اليومية الأولى في البحرين


أفق


الليبرالية فردية جامحة

تاريخ النشر : الخميس ١٥ مارس ٢٠١٢

عبدالله خليفة



مع تدهور الوضع الديمقراطي وصعود المذهبيين السياسيين المفتتين للأمةِ وللشعوب رأينا الليبراليةَ وهي تذوي وتغدو مطامحَ شخصية.
كانت التياراتُ الليبراليةُ في بدئِها واعدة، تغلغلتْ خاصة بين التجار وأعلتْ شعارات التوحد، وكان التوحدُ عظيماً،(أمة واحدة من المحيط إلى الخليج)، وكذلك شعار استعادة فكرة (الرسالة) التي لها ظلال إسلامية إمبراطورية، لكن هذه الرسالة السابحة في التجريد والتعميم لم تُحللْ الرسائلَ العربية القديمة، وأشكالَ التوحدِ التي ظهرتْ بالعنف، والأنظمةَ الإمبراطورية التي قادتها وتحكمت بها طبقاتٌ صغيرةٌ في المراكز السياسية.
الليبرالية العربية الراكضة نحو السلطة ونحو العسكرية ونحو حكم القوة لم تأخذ وقتاً طويلاً في نشر الحريات الاقتصادية والاجتماعية والشخصية، ولم تفكك القبائلَ المحافظةَ التي استولتْ على المدن وجعلتها بدويةً، ولم تمدن العلاقات الأبوية وتقارب بين الرجال والنساء، ولم تقدر على نشر الحريات الثقافية والفكرية وحصار الأمية والقضاء عليها، لم تقوِّ حضور المكتبات والتأليف والفنون بشكل مستمر.
بل جرت نحو مراكز القوة، ونحو السلطات، والتنظيمات السياسية الصغيرة المكونة من أناس متعجلين، وهذه الثقافة السياسية كانت أرضية مناسبة للمغامرات الخطرة.
الانتهازيةُ هنا متغلغلة، والأفرادُ يبحثون عن مصالحهم القريبة، والعائلاتُ التجاريةُ الكبيرة ترغبُ في التداخل مع الأجهزة الحكومية وتحصل على مراكز تأثير وفوائد.
وثمة شبابٌ طامحون فيها تعلموا تعليماً عالياً وفي بحر من الأمية والجهل الشعبي الواسع، نظروا الى أنفسهم بأشكال متضخمة، ورأوا معرفتهم التي حصلوا عليها قوةً هائلة وسط التخلف، فاستفادوا من التناقض بين العلم النخبوي والجهل الواسع، وهذه الاستفادة قادت لبعض التغييرات في بلدان جائعة للمشروعات والتطور ولكن على أسسٍ غير ديمقراطية.
العودة الى الإسلام أو التوجه الى الغرب، شعاران لهذه النخب الليبرالية الصغيرة الأولى يُؤخذان بأشكال تسطيحية، فهما شعاران يعبران عن عدم فهم التاريخ الإنساني، وعدم أخذ التشكيلات والحقب التي مرتْ بها الأمم، فالعودةُ إلى الإسلام هي شعارٌ خيالي وغير ممكن، لأن المقصود بذلك هو الحقبة النضالية «النهضوية» الديمقراطية البسيطة التي ظهرتْ في التأسيس، وهي حقبةٌ فريدةٌ لها خصائصها الاستثنائية ولها محدوديتها، من حيث عدم ظهور طبقة وسطى ذات جذور عميقة في الصناعة، وذات علاقات إنتاجية ديمقراطية بالعاملين، ولهذا فإنها اعتمدت على الغزو والفتوح وهي ظاهرة كانت ضرورية لفترة تأسيسية تحررية مؤقتة وليست أن تكون أبدية، فألقت الحروب بنتائج سلبية وخيمة على القبائل جنين الأمة العربية والأمم الإسلامية وقتذاك، فجعلتها تعيشُ على القوةِ والجيوش وأضعفت الإنتاج المتطور على مدى الحقب التالية، وتكرس الصدامات العميقة بين الأمم الإسلامية وبينها وبين بقية البشرية.
الفئاتُ الوسطى الصغيرة القديمة المحدودة منتجة النهضة وقتذاك لم تحول ليبراليتَها وعقلانيتَها الصغيرةَ لرؤى تحليلية ناقدة واسعة، فتصنع مشروع نهضة متجذرا.
في حين أن الفئات الوسطى الصغيرة المعاصرة في بدء النهضة العربية تستعيدُ شعارات غير مدروسة وغير محللة، فتأخذُ الجاهزَ وتتجه للعنف والقوة والجيوش تكرر ما فعلهُ الأسلافُ في زمن مختلف.
إن فكرة العودة الى الماضي ضرورية كتحليلٍ وكنظرة فاحصة مكتنزة بقراءة التاريخ وبأدواتٍ منهجية عصرية، وعبرَ رؤية كيفية النهضة السابقة ومحدوديتها وأخطائها، وتجاوزها في النضال الحديث.
كذلك فإن نظرات الاندماج بالغرب كانت هي الأخرى تعاني ذات التسطيح والاستيراد الشكلي،
والنظرتان خلقتا رافدين حادين التقيا في الانقلابات الفوقية التي لم تشكل أسس تغيير عميقة، وجلبت مشكلات كبيرة، بخلاف التطور التدريجي المفترض الذي يراكم بعمق وبصبر المميزات الايجابية.
وهذا كله أدى إلى تآكل الليبرالية والديمقراطية المستندتين إلى جذور تاريخية عميقة وإلى قراءة واستفادة من الغرب، ومن هنا وجد بقايا الليبراليين والديمقراطيين أنفسهم في موجات غير تحديثية كبيرة ومضطربة بين عودة شديدة الى الوراء وبين قفزات مغامرة للحداثة.
غدا الليبراليون والديمقراطيون أفراداً فقدوا الركائز الاجتماعية الواسعة وهذا سهل للقوى الحكومية الشمولية والمذهبيات السياسية أن تطويهم تحت أجنحتها في عوالم تقليدية.
وهذا أثر حتى في الأحزاب ذات التواريخ «النهضوية» والديمقراطية واليسارية التي غدت زعاماتها فردية، تتأثر بالموجات الكبيرة في الحياة السياسية.
وحينئذٍ تغدو الليبرالية فرديةً جامحة تعزلُ الشعارات عن جذورها وعن اللوحة العامة للصراع وتركز في خيوط صغيرة مفصولة، مما يقود للمزيد من الذوبان لهذه الأفكار، وإعلاء المصالح الخاصة واستغلال الصراعات للفوز بالغنائم المالية وبالمقاعد والنفوذ.
وهي كأفراد ذوي اهتمام بمصالحهم لا تستطيع أن تجابه عبر هذا التاريخ القوى الشموليةَ العنيفةَ التي راحتْ تستعيدُ عبر هذا التآكل للقيم الديمقراطية السلمية، قيم القبلية المسلحة ومذهبيات الفرق الناجية الوحيدة وعقليات الغزو والبطش نفسها بشعاراتٍ جديدة، لكونها لم تواصل الحفر الديمقراطي التاريخي عبر عقود وتحوله لسياسات أهلية وحكومية عميقة ومتأصلة في الشعوب والحكومات.
لابد من البدء من جديد وتجميع الخيوط وتوسيع القوى المؤيدة لهذه الأفكار الليبرالية والديمقراطية وتحويلها لحراك اجتماعي سياسي يوقف التدهور ويحيله لتقدم جديد