الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٤١٢ - السبت ١٧ مارس ٢٠١٢ م، الموافق ٢٤ ربيع الثاني ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)


قمة بغداد وأزمة العمل العربي المشترك





ربما كانت إسرائيل هي أسعد دول العالم في اللحظة الراهنة، فالمخاطر الأمنية التي كانت تدعي أنها تتهددها من العرب قد تلاشت، وغدت قوتها العسكرية التي بنتها لمواجهة هذه التهديدات في حالة راحة واستعداد لدور مرتقب إزاء إيران؛ فقد انفرط عقد جيش العراق الذي كان يقال عنه إنه سادس جيوش العالم، وهو الآن يعاد بناؤه كقوة لحفظ النظام فحسب لا قبل له بمواجهة أي خطر يأتي من الخارج.. وكذلك تقوم ليبيا بإعادة هيكلة جيشها إلى كتائب على أساس عشائري وقبلي، أي انها الآن أصبحت بلا جيش نظامي يخضع لقيادة واحدة مسيطرة.

ومن ناحية أخرى، بينت أحداث الربيع العربي، والأصح أن نسميها الحراك العربي، في سوريا أن جيشها كان موجهًا إلى الداخل وحفظ أمن نخبة النظام الحاكمة أكثر من كونه جيشًا مقاتلاً، كما أصبح جيش مصر أكبر الجيوش العربية منشغلاً بالدور الذي كان يتعين أن تقوم به الشرطة، وغدا الجيش اليمني موزع الولاءات تطارده أخطار الداخل، وأهمها انفراط عقد الوحدة اليمنية، ويعاني لبنان أزمة ازدواجية الدور بين الدولة و«حزب الله»، وليس استقلال جنوب السودان هو نهاية المطاف لإقليم الدولة السودانية، وأيضًا غدت المقاومة الفلسطينية معلقة على الخيار الدبلوماسي.

إذًا لا يوجد أي خطر عسكري يتهدد إسرائيل من العرب، لا عرب الطوق ولا غيرهم، وليس أمام العرب من أمل في الوضع الراهن إلا أن تظل الأوضاع الحدودية كما هي ريثما تتم إعادة ترميم البيت العربي.

ومع صعود الإسلام السياسي في دول الحراك العربي بمشارب وتوجهات متباينة بين مدارس هذا التيار في هذه الدول لا يتراجع فقط الصوت العروبي أمام صعود الإسلام السياسي، ولكن يضعف الحد الأدنى الجامع بين هذه المدارس؛ حيث يدعي كل منها أن الحق كله في جانبه وحده، كما تتصاعد أزمة الثقة ويتراجع العمل المشترك سواء عربيا أو إسلاميا إزاء افتقاد هذه المدارس رؤية تجسد أهمية هذا العمل المشترك، وكيف يتم الخوض فيه؟ وبين من يتم هذا العمل؟ وباستثناء حزب العدالة والتنمية التركي الذي يسعى منذ فترة إلى تنشيط التعاون الإسلامي - الإسلامي، كما بدا في مبادرة «نجم الدين أربكان» في إنشاء تجمع دول الثماني الإسلامية الكبرى، وما يقوم به هذا الحزب من نشاط في منظمة المؤتمر الإسلامي، وبرغم أهمية هذه المنظمة كإطار جامع للعالم الإسلامي، فإن هذا العالم ينظر إلى المنطقة العربية كمنطقة القلب منه وهي المنطقة التي تنظم تعاونها رسميا جامعة الدول العربية.

إن الجامعة العربية كانت سابقة في النشأة على قيام دولة إسرائيل، وقامت على إدراك أهمية العمل العربي المشترك في النهوض بالبلدان العربية، ولم يكن هناك هذا الانقسام بين دول عربية نفطية وأخرى غير نفطية، وعملت الجامعة كمؤسسة بين الحكومات على الارتقاء بالحد الأدنى المشترك لتبنيها قاعدة الإجماع في اتخاذ القرارات، وسنة بعد الأخرى توسع نشاط هذه المؤسسة الجامعة، وامتد إلى المجالات الاقتصادية والمالية والاجتماعية والثقافية، كما أنشئت مؤسسة القمة التي يلتقي فيها القادة العرب، ويتخذون قرارات ذات طبيعة استراتيجية، لا يتم تنفيذ معظمها، وبرغم ما تعرضت له الجامعة من أزمات وخاصة بعد توقيع مصر معاهدة السلام مع إسرائيل والانتقال المؤقت لمقر الجامعة إلى تونس، فإنها استمرت وعبرت هذه الأزمات وتمخض عنها منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى، وبرغم طرح العديد من المشروعات لإصلاح الجامعة شأنها في ذلك شأن منظمة الأمم المتحدة نفسها، وبرغم عدم تبني أي من هذه المشروعات، فإن استمرارية الجامعة على ميثاقها الذي تأسست عليه عبرت عن وجود اتفاق جماعي عربي بين الحكومات الأعضاء على أهمية استمرار هذه المؤسسة كما هي كحد أدنى جامع للعرب على المستوى الرسمي.

وقد بدا في الآونة الأخيرة اهتمام كبير من قبل الجامعة بالقضايا الحياتية للشعوب العربية تبنتها مؤسسة القمة الاقتصادية، وما نتج عنها من قرارات تتعلق بالتشغيل وانتقال العمالة والمشروعات الصغيرة والمتوسطة، غير أنه في قضايا ثورات الحراك العربي في كل من ليبيا وسوريا بينما حاولت، بداية، السير في محاولات حقن الدماء، إلا أنها اتخذت مع استمرار سقوط ضحايا عنف النظام السياسي في كلا البلدين مواقف انحازت فيها للشعوب رغم أنها مؤسسة بين الحكومات، وهو ما خلق أزمة لهذه المؤسسة مع حكومات هذين البلدين، بل إن ثورات الحراك العربي جلبت على هذه المؤسسة أزمة فعالية من نوع آخر؛ حيث إن كل دول هذه الثورات غدت منكفئة على داخلها، ولا تكاد توجد لها سياسة خارجية؛ حيث تغطي قضايا الداخل تقريبًا على جل اهتمامها مع أهمية الدور العربي في سرعة تعافي هذه الدول وتجنب مخاطر أوضاع ما بعد الثورة؛ حيث نجد بعض بلدانها مصابا بمخاطر التفكك كاليمن وليبيا، وقبلها يواجه العراق منذ الغزو الأمريكي هذا السيناريو ويقف على عتبات مرحلة الدولة الفاشلة التي سبقه إليها الصومال، وتواجه مصر الدولة الكبرى والموازن العربي الاستراتيجي مع إسرائيل قضايا إعادة ترتيب البيت الداخلي، وهو أمر يقدر له أن يستمر حتى منتصف العام الحالي ٢٠١٢ على الأقل قبل أن يعود الجيش المصري إلى ثكناته.

أما سوريا فتعيش صراعًا داخليٌّا ليس معلومًا متى وأين وكيف ينتهي، وفي ظل هذه الأوضاع تصبح بيروقراطية وزارات الخارجية العربية بما لديها من ملفات ومواقف سابقة هي التي تتحدث، ولن تطرح قضايا جديدة أو مبادرات جديدة ولا يستطيع أحد أن يتخذ قرارًا في مثل هذه القضايا، وليس أدل على ذلك مما أعلنته السعودية من التزامها بحزمة المعونات التي أعلنت أنها ستقدمها لمصر، والتي من بينها تمويل لمشروعات تنموية، إلا أنها لم تتلق إلى الآن بيان هذه المشروعات من الحكومة المصرية، والسبب في ذلك أنه لم تستقر بعد الحكومة المصرية التي تستطيع أن تأخذ قرارًا مشروعًا، ومثل هذا الأمر نجده في كل دول الحراك العربي.

وسط هذا الجو المتأزم للعمل العربي المشترك تأتي محاولة العراق إنقاذ انعقاد القمة العربية التي ينظر إليها باعتبارها بمثابة تأكيد لعروبة العراق ورد اعتبار عربي لهذا البلد الذي كان له دور ريادي في إنشاء جامعة الدول العربية نفسها وعضوا مؤسسا فيها، وبمثابة دعم عربي للنظام السياسي العراقي الذي يستضيف هذه القمة، واعتراف عربي بأن الأجواء الأمنية تساعد على عقدها في بغداد في موعدها المحدد في ٢٩ مارس الذي يسبقه اجتماع مجلس الجامعة الاقتصادي والاجتماعي في ٢٧ مارس، ورئاسة العراق لهذه القمة سوف تقترن بمسؤوليات واسعة تشمل ترؤسه عشرات اللجان المهمة المتفرعة عن القمة العربية، وكذلك ترؤسه خلال الفترة المقبلة ثلاثة مؤتمرات، هي مؤتمر قمة بغداد والقمة العربية اللاتينية والقمة العربية الافريقية، غير أن الأوضاع الحالية والقمة المرتقبة تقع داخل أزمة العمل العربي المشترك، وليس في داخل حل هذه الأزمة نتيجة الأوضاع الأمنية الهشة في العراق من ناحية، وتوغل النفوذ الإيراني فيه من ناحية أخرى، والممارسات ضد العرب السنة داخل العراق من ناحية ثالثة.

وإذا كانت دول الحراك العربي لها عذرها في مستوى التمثيل داخل هذه القمة إذا انعقدت وهو أمر محل شك كبير، فإن غياب قمة اتخاذ القرار في هذه الدول يجعل من قمة بغداد شكلاً فارغ المضمون، وسيكون هذا بمثابة ضربة كبيرة للعمل العربي المشترك، وهي ضربة تأتي هذه المرة من شعوب هذه البلدان التي تنتظر كثيرًا من هذا العمل.

إذًا ما العمل؟ هل تؤجل القمة؟ هل تنعقد في مكان آخر؟ وإذا انعقدت تنعقد بمن وما هو الموضوع الذي يمثل أجندتها الرئيسية؟ إن هناك أسبابًا كثيرة تدعو إلى تأجيل انعقاد هذه القمة، وفي مقدمتها عدم استكمال المؤسسات الدستورية في دول الحراك العربي وهي كثيرة، والبديل عن هذه القمة قمة مصغرة تضم الدول العربية المستقرة، وهي دول مجلس التعاون الخليجي مضافًا إليها الجزائر والمغرب والأردن، والموضوع الرئيسي الذي يمثل أجندتها الرئيسية هو إنشاء «صندوق عربي للإعمار والتنمية» لتقديم العون للبلدان العربية التي تمر بمرحلة انتقالية حتى تقف على قدميها وتسترد عافيتها بشروط عربية، وليس بشروط المنظمات الدولية أو القوى السياسية الكبرى، وقد سبق لدول مجلس التعاون الإسهام في إعادة إعمار مدن القناة بعد حرب ١٩٧٣ حتى إن هناك أحياء في هذه المدن تحمل أسماءها، كما سبق لها في ٢٠١١ تقديم دعم بملياري دولار سنويا مناصفة بين البحرين وعمان مدة عشر سنوات، والآن نجد أن تونس تواجه صعوبات اقتصادية بسبب الأزمة في الاتحاد الأوروبي وما ترتب عليها من نقص المدخولات السياحية والاستثمارات الأوروبية وانخفاض تحويلات العمالة التونسية في أوروبا، كما تواجه مصر صعوبات أشد بسبب تدهور احتياطي العملات الأجنبية وعجز الموازنة العامة وميزان المدفوعات أيضًا بسبب تدهور المدخولات السياحية وندرة تدفق الاستثمارات الأجنبية، وكذلك يواجه اليمن إشكالات مماثلة، والشعوب في هذه الدول تنتظر من الأشقاء العرب المساعدة وقت المحنة، فلا معنى أن تكون غنيا وجارك جائع، وخاصة إذا كان جارك هذا شقيقًا.

ويمكن أن يأتي جانب كبير من العون العربي الخليجي ليس على سبيل المنحة ولكن على سبيل التوجه الاقتصادي مثل تنشيط الاستثمار في هذه البلدان واستكمال تنفيذ المشروعات التي توقف التنفيذ فيها بسبب أزمة دبي والركود الأوروبي وثورات الحراك العربي وتنشيط السياحة، هذا إلى جانب منح القروض الميسرة المنخفضة الفائدة، التي يمكن سدادها بالعملات المحلية لهذه الدول.. وهكذا فإن نجاح القمة العربية المصغرة في هذا المضمار سيعطي قوة دفع شعبية كبيرة للعمل المشترك تفوق بكثير انعقاد قمة بحضور ضعيف لا تصل إلى قرار.































.

نسخة للطباعة

مقالات أخرى...

    الأعداد السابقة