زاوية غائمة
موسم الدرس والهرس
تاريخ النشر : الاثنين ١٩ مارس ٢٠١٢
جعفر عباس
بعد نحو ثلاثة أشهر، يبدأ موسم القلق والخوف والتوتر والإحباط وكل أشكال الضغوط النفسية والإجهاد البدني.. فالامتحانات المدرسية - وهي أسخف ابتكار للجنس البشري - ستبدأ كالعادة في شهر يونيو المقبل، وكالعادة سيحتار ملايين الصغار والشباب حول أفضل السبل لاستذكار الدروس.. ثم يكتشف الجيل تلو الآخر أنه ليس هناك طريقة نموذجية «للمذاكرة»، فهناك من يكتفي بثلاث ساعات يوميا من مراجعة الدروس ويحرز أفضل النتائج، وهناك من يذاكر ثلاث عشرة ساعة يوميا ويرسب في الامتحانات بتقدير ممتاز.. وأخوض في هذا الموضوع في مثل هذه الأيام من كل عام، لأنني أب، ولأنني صاحب خبرة لا بأس بها في مجال التدريس، ولأنني يوما ما كنت طالبا وعانيت كثيرا من الامتحانات وأجوائها الكئيبة، ولكن أبناء جيلي لم يكونوا يتعرضون لنفس الضغوط النفسية والاجتماعية التي يعاني منها جيل الشباب المعاصر في المدارس.. لم يكن هناك من يطالبنا بأن نسعى لدارسة الطب او الهندسة.. بل كان كثيرون منا يواصلون تعليمهم الجامعي رغم اعتراض آبائهم وأمهاتهم على «إضاعة المزيد من سنوات العمر، ففي ذلك الزمان كانت الشهادة الثانوية تكفل لك وظيفة ومكانة محترمة».. شخصيا لم يكن أبي يعرف ما إذا كنت في الصف الثاني الثانوي أم في الثالث المتوسط.. وبعد ان بلغت الخامسة عشرة سألني: أما لدارستك هذه نهاية؟ إلى متى ستظل تدرس؟.. كان يسمعني أشكو لشقيقي الأكبر من معاناتي مع الماث (الرياضيات) والفيزكس (الفيزياء) - وكنا ندرس جميع المواد العلمية والأدبية بالانجليزية - فكان يقول بكل حنان الأب: سيبك (دعك) من وجع الرأس وركز على الحساب والقراية والكتابة (ولو كان يعرف ان الحساب هو نفس الماث الذي كان يسبب لي التماس الكهربائي والالتباس، والاحتباس الحراري، لأخرجني من المدرسة).. كان الضغط الوحيد الذي كنا نعاني منه هو «الحافز والدافع الذاتي للنجاح»، أي أن الأهل لم يكونوا يشحنوننا ويضغطوننا لنصبح - مثلا -«علميين» بالعافية كما يحدث مع جيل الشباب المعاصر.. وكنت وبرغم مخّي الذي كان يتمتع بحصانة ومناعة ضد الرياضيات أحرز نتائج أكاديمية طيبة لأنني كنت «أجيب الفرق» في المواد الأخرى، لأنني كنت أجتهد لإحراز نتائج طيبة حتى يتسنى لي نيل درجة تعليمية تفتح لي الطريق لوظيفة طيبة تجعلني قادرا على «سداد» الدين الذي في رقبتي لأهلي الذين أنفقوا من القليل الذي عندهم كي أصبح موظفا «أفنديا».
طيب قد تسألني كأب: كيف تساعد عيالك على المذاكرة؟ أو ما هي إرشاداتك لهم؟ والإجابة: أقول للواحد منهم «ذاكر» قبل وقت كاف من تاريخ بدء الامتحانات، ولا استطيع أنا، ولا يستطيع غيري من الآباء التأكد من ان عيالهم يعملون بتوجيهاتهم ويذاكرون الدروس، فإمساك شخص ما بكتاب ليس دليلا على أنه يقرأ ما فيه.. حكى لي أكبر أولادي أنه عندما كنت أطلب منه الابتعاد عن التلفزيون لمذاكرة دروسه أنه كان يغلق باب غرفته عليه ويفعل أي شيء سوى المذاكرة، «نكاية» بي! وأنه كان يذاكر بجدية فقط عندما لا يتلقى أمرا بذلك... أي أنه كان يذاكر بالدافع الشخصي الذاتي، لأنه كان يدرك أن النجاح الأكاديمي هو جواز سفره إلى حياة عملية مجزية، وكان يتمرد على المذاكرة عندما تكون فرمانات من الفك المفترس الذي هو أنا... الأب.. ولكن الضغط الوحيد الذي لم أمارسه على أي من عيالي هو: لازم تدرس مواد علمية كي تدخل كلية كذا وكذا.. أو يجب أن تلتحق بكلية كذا أو كذا لتصبح كذا أو كذا.. مثلا أبدى أصغر عيالي رغبة في دراسة «المال والبنوك»، والتحق بواحدة من أفضل الجامعات الأمريكية في هذا المجال، وبعد سنته الأولى فيها أبلغني أنه انتقل إلى كلية العلوم الصحية لدراسة علاج أمراض التواصل والسمع والنطق, فقلت له بكل طيب خاطر: القرار قرارك والزمان زمانك.
jafabbas19@gmail.com