الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٤١٥ - الثلاثاء ٢٠ مارس ٢٠١٢ م، الموافق ٢٧ ربيع الثاني ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)


العدوان الإسرائيلي على غزة.. الأهداف والرسائل التي يحملها





مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية

ما أشبه الليلة بالبارحة! تلك العبارة تعكس الواقع الحالي في غزة، فبعد ثلاث سنوات من الهدنة الهشة.. ومنذ انتهاء مجزرة الرصاص المصبوب (٢٧/١٢/٢٠٠٨-١٨/١/٢٠٠٩) التي خلفت أكثر من ١٥٠٠ قتيل وما يزيد على ٥٠٠٠ جريح، عادت من جديد الاعتداءات الإسرائيلية على القطاع بدءًا من يوم ٩/٣/٢٠١٢ وبالشراسة والإجرام أنفسهما مخلفة في أربعة أيام ٢٥ قتيلاً وأكثر من ١٠٠ جريح من بينهم نساء وأطفال ومسنون، فضلاً عن تدمير العديد من المنازل والمنشآت والبنى التحتية الأخرى.

إن عودة الاعتداءات من جديد التي تفسرها تل أبيب بأنها رد فعل على قصف عناصر المقاومة في غزة للقرى والبلدات في جنوب إسرائيل، وأنها في إطار الدفاع الشرعي عن النفس.. أثارت لدى المراقبين تساؤلات عديدة حول الأسباب التي دعت حكومة «نتنياهو» إلى شن هذا العدوان - خاصة أنه كانت هناك حالة من التهدئة بين الجانبين ؟ ومصير اتفاق التهدئة الجديد الذي تم التوصل إليه بوساطة مصرية، والأهم الرسائل التي أرادت إسرائيل أن توصلها من خلال هذا العدوان.

إن خبرة التاريخ والتجارب السابقة تقول إن إسرائيل ؟ كدولة خارجة على القانون- في طريقة التعامل مع الشعب الفلسطيني والأراضي المحتلة لم تحكمها يومًا أي تقاليد أو أعراف أو مواثيق دولية، فهي ليست بحاجة إلى مبررات وذرائع لتبرير ممارستها العدوان ضد الفلسطينيين، وكثيرًا ما اختلقت حججًا وذرائع وهمية لتبرير اعتداءاتها والتغطية على جرائمها.

ولقد أثبت العدوان الأخير مدى الإجرام الذي يمارسه القائمون على هذه الدولة العنصرية، وكيف أن شريعة القتل الممنهج أصبحت سلوكًا عاديٌّا للجيش الإسرائيلي، كأنه يمارس تدريباته العسكرية اليومية المعتادة، فبحسب اعتراف رئيس الإجرام الإسرائيلي «بنيامين نتنياهو» كانت إسرائيل هي البادئة بالعدوان حين اغتالت بغارة جوية الشيخ «زهير القيسي» القيادي بألوية الناصر صلاح الدين (الجناح العسكري للجان المقاومة الشعبية)، وذلك بدعوى أنه كان يخطط لعملية عسكرية تستهدف منطقة الحدود بين مصر وإسرائيل.

أي أن العدوان على غزة لم يكن رد فعل لعمليات فعلية نفذتها المقاومة سواء كانت عمليات نوعية أو عمليات قصف بالصواريخ لجنوب إسرائيل، ولكن كل ما في الأمر هو أن القيادة العسكرية الإسرائيلية - بحسب أحد المحللين الإسرائيليين ؟ قد نفذت هذه العملية من أجل نصب كمين لفصائل المقاومة ومحاولة استفزازها كي ترد عليهاولقد تحقق للإسرائيليين ما أرادوا حين أقدمت سرايا القدس (الجناح العسكري لتنظيم الجهاد) وألوية الناصر صلاح الدين على إطلاق الصواريخ على قرى الجنوب الإسرائيلي (أشدود وبئر سبع)، فاستغلت إسرائيل ذلك وصعدت من عدوانها رغم أن قادتها هم البادئون به.

هذا التصعيد المفتعل والمقصود سعت إسرائيل وقيادتها الإجرامية من ورائه إلى تحقيق بعض الأهداف التي تعكس، وبدرجة كبيرة، حجم الاستهانة التي تتعامل بها مع قطاع غزة وشعبه المحاصر والأعزل، وفي الوقت ذاته يشكل إدانة للمجتمع الدولي على صمته وتجاهله لسياستها العدوانية.. ومن بين هذه الأهداف ما يلي:

- خشيتها من أن يكون طول فترة التهدئة قد مكن حركة «حماس» من بناء قوة عسكرية في غزة على غرار «حزب الله» اللبناني؛ إذ تم الترويج لتقرير استخباراتي يدعي أن حماسا عززت قدراتها العسكرية بالتزود بالمزيد من الأسلحة المتطورة، وأنها أدخلت في عام ٢٠١١ سبعة أضعاف ما تزودت به في عام ٢٠١٠؛ حيث زاد عدد الصواريخ بنسبة ٢٠%، وقذائف المدفعية بنسبة ٢٥%، كما ادعى أن الحركة تمتلك منظومة حربية تحت الأرض تشمل عشرات الأنفاق المرتبطة ببيوت داخل القطاع ومعدة لاختطاف جنود ونقل أسلحة وتهريبها من الجنوب.

- رغبتها - وبحسب «موشيه» يعلون وزير الشؤون الاستراتيجية ؟ في أن تثبت عدم صحة ما ردده البعض بأن يد إسرائيل بعد الثورة المصرية ستكون مغلولة أو مكبلة عن شن عمليات عسكرية ضد قطاع غزة، خشية أن يوثر العدوان بالسلب في معاهدة السلام بين البلدين، كأنها أرادت من وراء غاراتها على القطاع اختبار رد فعل القيادة والقوى السياسية البارزة على الساحة المصرية بعد الثورة.

- رغبتها في معرفة مدى التزام حركة «حماس» بالتهدئة، وإذا ما كانت ستمنع فصائل المقاومة من إطلاق الصواريخ تجاه إسرائيل، وقد امتنعت حماس بالفعل عن إطلاق الصواريخ، الأمر الذي وضعها في موقف حرج أمام فصائل المقاومة الأخرى التي انتقدتها واتهمها البعض بالتخلي عن المقاومة.

- معرفة نوعية الصواريخ الموجودة بحوزة الفصائل الفلسطينية، وهل وصلت إليها صواريخ متطورة أم لا، وتدعي إسرائيل أن معارك اليومين ٩ و١٠ مارس قد أثبتت أن ألوية صلاح الدين وسرايا القدس أطلقت صواريخ «جراد» التي كانت فقط بحوزة حركة «حماس».

- الهدف الأهم هو رغبتها في تجربة نظام «القبة الحديدية» بعد أن قام سلاح الجو الإسرائيلي باستعدادات مسبقة عندما نصب بطاريات إسقاط الصواريخ «القبة الحديدية»، وغطى سماء غزة بتشكيلة واسعة من مختلف الطائرات، فجاءت النتائج - وفقًا لهم - مطابقة للاستعدادات وباستثناء إصابات طفيفة لم تقع خسائر في الأرواح والممتلكات، وزيادة على ذلك تم إسقاط الصواريخ كافة التي كان يفترض إصابتها للمناطق السكنية.

كأن إسرائيل وبحسب الهدف الأخير جعلت من قطاع غزة حقل تجارب لاختبار منظومتها الدفاعية الجديدة، وهو السلوك نفسه الذي اتبعته حليفتها الولايات المتحدة، حين جعلت من أفغانستان والعراق حقلي تجارب لاختبار أنواع الأسلحة والذخيرة الحديثة والأشد فتكًا التي تضمها ترسانتها الحربية، وهو سلوك غير إنساني يكشف عن غياب تام لأي قيم أو معايير أخلاقية في سياسة هذين البلدين.

وإذا كانت إسرائيل قد سعت من وراء عدوانها الأخير إلى تحقيق الأهداف السابقة، فإنه مما ساعدها على شن هذا العدوان، هو أن الأجواء كانت مواتية لها لارتكاب جريمتها الجديدة، فمن ناحية الحليف الأمريكي المعروف بسلبيته وانحيازه الدائم في كل الاعتداءات السابقة إلى جانب إسرائيل، يبدو كأنه أعطى ضوءًا أخضر لتل أبيب لشن العدوان حين تحدث الرئيس الأمريكي «باراك أوباما» قبلها بأيام، وأكد أن أمن إسرائيل هو التزام «مقدس» بالنسبة للإدارة الأمريكية، ووفقًا لهذا الوصف الأمريكي فمن حق إسرائيل بالتبعية أن تتخذ من الإجراءات ما تراه من أجل الحفاظ على أمنها.. وعبارة «من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها» شعار أمريكي جاهز دائمًا لتبرير أي جريمة ترتكب ضد الشعب الفلسطيني، الذي تعتبر واشنطن مقاومته المشروعة نوعًا من الإرهاب.

من ناحية أخرى، فإن المنطقة العربية تشهد حالة من السيولة؛ حيث ينشغل الجميع بما يجري في سوريا وليبيا وغيرهما من تطورات عن القضية الأساسية، وهي معاناة الفلسطينيين في غزة وفي

الأراضي الفلسطينية عمومًا، ومثل هذه الأجواء تجدها إسرائيل مناسبة لتنفيذ عدوانها، لأنها ترى أنها لن تجد الصدى والاهتمام من الدول العربية.

ومن ناحية ثالثة، فإن الدولة العبرية يقلقها ما يجري على الساحة الفلسطينية من تطورات خاصة بالمصالحة بين الفصائل الفلسطينية، والحديث عن حكومة وحدة وطنية تشارك فيها حركة «حماس»، وهو ما لا ترضى به تل أبيب التي كانت تسعدها القطيعة بين «فتح» و«حماس» واستمرار حالة التشرذم الفلسطيني، وبالتالي، فإنها وجدت نفسها مطالبة بالتحرك لعرقلة المصالحة من خلال شغل الفلسطينيين بما يجري في قطاع غزة.

لقد كانت هناك مخاوف من أن تكون الغارات الإسرائيلية مقدمة لعملية عسكرية واسعة ضد غزة، بيد أن الإسرائيليين أنفسهم استبعدوا تطور التصعيد العسكري إلى حرب طالما لا تقع خسائر في الأرواح في أوساط المدنيين الإسرائيليين، فهناك - من وجهة نظر محللين عسكريين- درجة معينة لامتصاص الضربة بالنسبة للقصف الصاروخي لقرى الجنوب حددتها إسرائيل لنفسها، فإذا تعدى القصف هذه الدرجة فإن القيادة السياسية الإسرائيلية ستمنح الجيش الضوء الأخضر لتوسيع عملياته بعملية برية.

وبالعودة إلى السؤال الذي سبق طرحه ضمن تساؤلات في البداية: إذا كانت مصر قد نجحت في التدخل والتوصل إلى تهدئة بين الجانبين.. فإلى أي مدى يمكن أن تصمد هذه التهدئة؟

في حقيقة الأمر هذه التهدئة ليست سوى تهدئة «هشة» والذي يؤكد ذلك هو أنه لم يمض أكثر من ٢٤ ساعة على التهدئة حتى قامت إسرائيل باختراقها من خلال غارة جوية شنتها طائراتها فجر الأربعاء ١٤/٣/٢٠١٢ على القطاع ودمرت خلالها العديد من المنازل والممتلكات، كما أن مصدرًا في الحكومة الإسرائيلية نفى أن يكون اتفاق التهدئة قد تضمن ما يغل يد إسرائيل عن الاستمرار في سياسة الاغتيال ضد نشطاء المقاومة الفلسطينية، ومعنى ذلك أن قيادات ونشطاء المقاومة سيظلون دائمًا هدفًا للاغتيال من جانب آلة القتل الإسرائيلية، وهو ما سيكون له أيضًا رد فعل دائم من جانب المقاومة على الأقل بضرب بلدات وقرى الجنوب الإسرائيلي كنوع من الانتقام، أي العودة للدوران في الحلقة المفرغة نفسها من الفعل ورد الفعل.. وفضلاً عما سبق، فإن استمرار حركة «حماس» في السيطرة على غزة هو أمر غير مرغوب فيه إسرائيليا، وأحد الأهداف الأساسية للحكومة الائتلافية المتطرفة الحالية بقيادة «نتنياهو» هو إسقاط حكم «حماس»، أي إن القطاع سيظل دائمًا هدفًا وعُرضة للعدوان الإسرائيلي وبصرف النظر عن أي تهدئة.

وهو ما يقود إلى حقيقة مهمة هي: في جميع الأحوال سيظل القتل والعدوان هما السياسة التي لا تعرف إسرائيل لغيرها بديلاً.. وهنا تبرز رسالتان أرادت من وراء عدوانها الأخير على غزة أن توصلهما:

- الأولى، إلى السلطة الفلسطينية والأمة العربية، مفادها أن إسرائيل مصممة على تنفيذ خططها التوسعية العدوانية استيطانًا أو تهويدًا، وجر الشعب الفلسطيني إلى مربع الاستسلام، مستغلة الغياب العربي وانقسام الأمة بفعل التطورات الحالية.

- الثانية، إلى العالم تعلن فيها أنها لا تلتزم بأي أعراف أو مواثيق دولية إنسانية، بل هي مستمرة في ارتكاب الجرائم الإنسانية من خلال قصف المدنيين (نساء وأطفالا وشيوخا) وممتلكاتهم، كما أنها مستمرة في حصار شعب بأكمله بسبب مطالبته المشروعة بأن يكون له وطن ينعم فيه بنسائم الحرية.

لا شك في أن إصرار إسرائيل على المضي قُدُمًا في نهجها العدواني، وعدم رجوعها عن سياستها التي لا تتغير في اغتصاب الحقوق الفلسطينية، يثير تساؤلاً هو: أين العرب مما يحدث؟ وإلى متى سيظل رد فعلهم ضعيفًا حيال ما يتعرض له الشعب العربي الفلسطيني من اعتداءات وانتهاكات؟

في حقيقة الأمر، لقد أصبحت الجامعة العربية ممثلة العرب - التي قامت عام ١٩٤٥ من أجل درء الخطر اليهودي عن فلسطين - تشارك فيما تسعى إليه الولايات وإسرائيل من تهميش ووأد للقضية الفلسطينية من خلال توجيه الانتباه إلى قضايا أخرى (ليبيا وسوريا مثالاً) بدليل أن الجامعة لم تتخذ موقفا قويا يعتد به من العدوان الأخير.

وفي المقابل أثبت العدوان أن دور مصر ظل وسيظل محوريا في القضية الفلسطينية، ليس لأنها توسطت للتوصل إلى اتفاق جديد للتهدئة بين الفصائل الفلسطينية في غزة وإسرائيل (فمصر أكبر من أن تلعب دور الوسيط)، وإنما للموقف القوي الذي اتخذه البرلمان المصري ردا على العدوان حين أجمع على وجوب طرد السفير الإسرائيلي من القاهرة.. ومثل هذا الموقف الذي يحسب لمصر الثورة يجب أن يقترن بإجراءات أخرى تساهم في التخفيف من معاناة الشعب الفلسطيني في غزة بسبب الحصار، وذلك من خلال إسعافه بإمدادات الوقود الضرورية لتشغيل محطة الكهرباء الرئيسية في القطاع، وفتح معبر رفح النافذة الوحيدة للشعب الفلسطيني على العالم لتسهيل دخول المساعدات الغذائية والطبية ومواد البناء اللازمة لإعادة إعمار ما خربته الحرب، علاوة على غيرها من الضروريات الأخرى للحياة.. ومثل هذه الإجراءات لا شك تعيد مصر لريادتها في المنطقة.. ولمكانتها كمدافع أول عن القضية الفلسطينية.































.

نسخة للطباعة

مقالات أخرى...

    الأعداد السابقة