الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٤١٦ - الأربعاء ٢١ مارس ٢٠١٢ م، الموافق ٢٨ ربيع الثاني ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)


نظرة تحليلية على الانفتاح في العلاقات السعودية - العراقية





مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية

هل العلاقات السعودية العراقية على عتبات مرحلة جديدة؟ هذا السؤال طرحه كثير من المتابعين للعلاقات بين البلدين، وانقسموا حوله ما بين متفائل بتحسن هذه العلاقات، وبين غير متفائل، بعد أن أقدم البلدان على بعض الخطوات الإيجابية (كتعيين سفير سعودي غير مقيم في بغداد، وإبرام اتفاقية أمنية، والإعداد لاتفاق لتبادل السجناء) التي أعطت انطباعًا بهذا التحسن.. وبعيدًا عن نغمة التفاؤل وعدم التفاؤل التي سيتم التعرض لدفوع أصحاب كل منهما، فإن مجرد الإقدام على تلك الخطوات أخرج العلاقات بين البلدين من حالة الجمود والتوتر التي سيطرت عليها سنوات طويلة إلى حالة جديدة تتسم بالتعاون بما يخدم مصالحهما، ويسهم في حل القضايا العالقة.

وبطبيعة الحال، فإن هذا التحول في العلاقات السعودية - العراقية تكمن وراءه أسباب ودوافع عند كل طرف، كما أن له آثاره الإيجابية ليس على الدولتين فحسب، وإنما على المنطقة العربية أيضًا.. ولكن قبل التعرض لدوافع البلدين لتحسن العلاقات، ورؤية المراقبين لهذا التحول والإيجابيات التي ستعود من وراء هذا التحسن، لابد أولاً من الإشارة سريعًا للأجواء العامة للعلاقات قبل هذا التحول الأخير.

بداية، مرت العلاقات السعودية - العراقية خلال العقود الثلاثة الماضية بعدة مراحل تباينت فيها العلاقات ما بين التعاون والقطيعة والجمود المشوب بالتوتر، فدول الخليج العربية ساندت نظام «صدام حسين» في حربه ضد إيران (١٩٨٠-١٩٨٨) من منطلق أن العراق بمثابة حائط صد في مواجهة الأطماع الإيرانية في المنطقة، ولكن عندما أقدم «صدام» على غزو واحتلال الكويت عام ١٩٩٠ تحول التعاون والمساندة إلى قطيعة شاملة، واستمرت هذه القطيعة حتى بعد تحرير الكويت، مع وجود تعاطف كبير مع الشعب العراقي بسبب الحصار والعقوبات.

ورغم أن سقوط نظام «صدام حسين» بعد الغزو الأمريكي للعراق كان من المفترض أن يفضي إلى عودة العلاقات العراقية الخليجية، ولاسيما السعودية، فإن هذا لم يحدث وشابت العلاقات حالة من الجمود المشوب بالتوتر.. وذلك تحت تأثير عدة عوامل:

الأول - الصبغة الطائفية التي سيطرت على تشكيل الحكومات التي تعاقبت على حكم العراق منذ سقوط نظام «صدام» بدءًا من مجلس الحكم الانتقالي مرورًا بالحكومة المؤقتة والحكومة الانتقالية وانتهاءً بالحكومة الدائمة الحالية برئاسة «نوري المالكي»؛ حيث جاء تشكيل هذه الحكومات ليعكس الواقع الجديد في العراق مع بروز الشيعة واحتلالهم صدارة المشهد، وهو واقع كان مقلقًا لدول الخليج عمومًا والسعودية على وجه الخصوص، وخاصة أنه ترتب عليه تهميش أبناء الطائفة السُنية، وهو ما حدا بالرياض إلى اتهام هذه الحكومات وحكومة المالكي تحديدًا بأنها حكومات طائفية، ومن ثم تحفظت في التعامل معها.

الثاني - التغلغل الإيراني في مفاصل الدولة العراقية، فأغلب القوى السياسية الشيعية التي تصدرت المشهد العراقي الجديد تربطها علاقات قوية بطهران، وأغلب الزعامات العراقية الحالية قضت سنوات المنفى أيام «صدام» في إيران.. وتلك العلاقات القوية سمحت للجار الإيراني بالتدخل في شؤون العراق، وممارسة نفوذ سياسي واقتصادي وأمني وديني، وبالطبع هذا الوضع يقلق السعودية ودول الخليج، لأن معنى ذلك أن إيران أصبحت تقف بالقرب من حدودها، فضلاً عن أن الوجود الإيراني في العراق ترتب عليه استقواء المليشيات الشيعية المسلحة بما تقدمه إيران من دعم واستهدافها لأبناء ورموز الطائفة السُنية.

الثالث- التدخل العراقي في الشأن الخليجي، فبين حين وآخر تصدر تصريحات غير مقبولة من القيادات والسياسيين العراقيين تمس سيادة واستقلال دول الخليج العربية كتلك التصريحات التي تذكر بالأطماع العراقية في دولة الكويت، والعودة للادعاء بأن الأخيرة جزء من العراق، فضلاً عن التدخل في الشؤون الداخلية لمملكة البحرين من خلال تصريحات مستفزة أثارت القلق الخليجي، وكانت تسهم في مزيد من التوتر في العلاقات السعودية - العراقية.

الرابع - خروج العراق عن الإجماع العربي حول الأزمة السورية؛ ففي الوقت الذي تجمع الدول العربية على مقاطعة نظام الرئيس «بشار الأسد» بسبب ممارساته وتصر على تغيير نهجه في التعامل مع الأزمة، فإن الحكومة العراقية كانت مستمرة في التعامل مع هذا النظام، (وان تغير موقفها مؤخرًا) حيث كانت تصف موقفها بأنه نابع من حساسية علاقاتها بالجار السوري، وهو موقف لا تقبله السعودية التي لها موقف واضح ضد النظام السوري.

إن كل العوامل السابقة أثرت ومازالت تؤثر بصورة مباشرة في العلاقات العراقية - السعودية والعربية حتى بعد عودة العراق للمشاركة في الأنشطة العربية في إطار الجامعة العربية، بل إنها أثارت شكوكًا حول استضافته للقمة العربية الـــ٢٣، بل في حجم ومستوى المشاركة في حال انعقادها في الموعد المحدد بنهاية مارس الجاري.

في ظل تلك الأجواء، فوجئ المتابعون للشأن العربي بأول خطوة حركت المياه الراكدة في العلاقات السعودية - العراقية حين أعلنت الرياض في فبراير الماضي ترشيح سفيرها في الأردن «فهد عبدالمحسن الزيد» كسفير غير مقيم في بغداد في خطوة أعادت العلاقات الدبلوماسية المقطوعة بين البلدين منذ عام ١٩٩٠، ولقيت ترحابًا من الجانب العراقي.. وتلا هذه الخطوة قيام وفد أمني عراقي رفيع المستوى بزيارة الرياض؛ حيث كللت الزيارة بتوقيع اتفاقية تؤسس لمرحلة جديدة من التعاون الأمني بمجال مكافحة الإرهاب والمخدرات والتهريب عبر الحدود.. ثم أعقب هذه الاتفاقية اتجاه البلدين لإبرام اتفاق لتبادل السجناء، وهو الاتفاق الذي تم توقيعه في الرياض مؤخرا .

تلك الخطوات الايجابية الثلاث.. التي تؤشر لبداية عهد جديد في العلاقات بين السعودية والعراق أثارت علامة استفهام كبيرة حول الأسباب التي دعت البلدين إلى كسر الجمود في هذه العلاقات.. وفي واقع الأمر لو نظرنا إلى الأسباب التي تدفع الجانب السعودي إلى هذا التحول سنجد الآتي:

أولاً - وضع حد للنفوذ الإيراني، وذلك بالعمل على إعادة العراق بقوة إلى الحظيرة العربية كطرف مهم في معادلة الأمن والاستقرار الإقليميين؛ إذ لا يخفى ؟ وكما سبقت الإشارة ؟ أن إيران أصبحت صاحبة قرار سيادي في اقتصاد العراق وأمنه وسياسته حتى قراره الديني، وزاد هذا النفوذ بعد انسحاب القوات الأمريكية من هذا البلد. ومن ثم تحاول الرياض من وراء هذا الاقتراب بناء دور عربي موازن للدور الإيراني وعدم ترك الساحة العراقية لطهران وحدها؛ لأن ذلك يمس أمن دول الخليج بصورة مباشرة.

ثانيًا - محاولة السعودية إقناع العراق بالتخلي عن دعمه لنظام «بشار الأسد» في سوريا، الذي تتخذ منه السعودية موقفًا عدائيًا على خلفية قمعه للاحتجاجات التي تشهدها سوريا منذ عام وقُتل فيها أكثر من ٨٥٠٠ شخص، فهي تريد أن ينضم العراق إلى الإجماع العربي بشأن سوريا؛ وتسعى إلى حصار نظامها عبر قرارات يتم تمريرها في قمة بغداد المزمعة، بحيث تكون القمة محطة لعزل النظام في سوريا عربيًا.

ثالثًا - سعي الرياض لتعديل بعض موازين القوى السياسية في العراق لمصلحة حلفائها من القوى السنية، الذين ترى أنهم باتوا مهمشين، فتحكم القوى الشيعية في العراق بعد سقوط «نظام صدام» ؟ وكما ذكر آنفًا ؟ هو أمر يقلق السعودية، لأنه من ناحية سمح لإيران باستغلال علاقاتها مع بعض القوى الحاكمة في توسيع نفوذها بهذا البلد، ومن ناحية ثانية سمح باستبعاد أبناء الطائفة السنية من المعادلة السياسية، بل استهداف وتصفية رموزهم وقياداتهم.

رابعًا - حاجة السعودية إلى تنسيق الجهود الأمنية مع العراق لمواجهة الأشكال المختلفة من الجريمة، التي تتم عبر الحدود الممتدة بين البلدين، والتي يصل طولها إلى ٩٠٠كم وذلك من قبيل: تسلل العناصر الإرهابية، وتهريب السلاح والمخدرات، والاتجار بالبشر، وهو ما أفضى إلى الاتفاقين الأمنيين المشار إليهما.

إذا كانت الأسباب السابقة تشكل دوافع السعودية للتحرك في اتجاه العراق، فإن أسباب العراق للتحرك في اتجاه السعودية عديدة، وهو ما يفسر الترحيب الشديد من جانب حكومة «نوري المالكي» ومختلف القوى السياسية العراقية بالتحول الإيجابي الأخير في علاقات البلدين.. ولو نظرنا إلى أبرز تلك الأسباب سنجد الآتي:

- ربما رغبة العراق في استعادة العلاقات التي دمرتها سنوات الحروب والقطيعة التي تركت آثارها ليس فقط على السعودية ودول الخليج، بل على دول المنطقة كلها، وتأمل حكومة «المالكي» أن تشجع خطوة تعيين سفير غير مقيم في بغداد (التي ترجو أن تكون خطوة لتعيين سفير دائم) بقية الدول العربية التي ليس لها سفارات في بغداد على القيام بخطوات مماثلة.

- سعي السعودية لتطوير علاقاتها مع العراق يمثل اعترافًا بأن بغداد عادت لترسخ موقعها، فالعراق بحسب البعض سيلعب دوره العربي والإقليمي والدولي، وهو أمر لا يمكن تجاهله.

- رغبة العراق في الوقت الحالي في توفير المناخ الملائم لإنجاح القمة العربية التي سيستضيفها في ٢٩ مارس الجاري؛ حيث يسعى لحضور أعلى تمثيل سياسي للبلدان العربية، وبالطبع حضور السعودية بكل ثقلها سيساهم في إنجاح المؤتمر لما تتمتع به من ثقل عربي وإسلامي ودولي بوصفها دولة محورية معتدلة تنتهج سياسة تعمل على الاستقرار، فضلاً عما يمثله ذلك من اعتراف بالحكومة العراقية.

- تحسن العلاقات السعودية - العراقية سينسحب بالإيجاب على العملية السياسية داخل العراق، ويطمئن جميع الأطراف المختلفة مع الحكومة، ويمنح مساحة واسعة من التفاهم بين الفرقاء العراقيين.

- رغبة العراق من خلال الحوار مع السعودية في الوصول إلى توافق حول بعض القضايا، فالخلاف على معالجة الملف السوري مثلاً - وبحسب علي الدباغ المتحدث باسم الحكومة العراقية ؟ لا يستدعي أي قطيعة على مستوى العلاقات، التي يجب أن تبنى على أساس المصالح المشتركة.

- عودة العلاقات مع السعودية وتأثيره الإيجابي المحتمل على العلاقات العراقية الخليجية سيتيحان مجالات أكبر للتعاون في مجال التجارة والاستثمار الخليجي في العراق، ولاسيما ما يخص تمويل مشروعات إعادة الإعمار.

- سعي بغداد لحل ملفات عالقة مع السعودية كملف ديونه المستحقة للمملكة، علاوة على حاجته إلى تفعيل خط تصدير النفط عبر ميناء ينبع على البحر الأحمر، الذي أنشئ في أواخر الثمانينيات (بطاقة ١,٥ مليون برميل)؛ إذ يعد هذا الخط الأكثر أمنًا من تصدير النفط بواسطة الشاحنات عبر الأردن، هذا غير الوضع الأمني المتردي في سوريا وتأثيره السلبي على خط طرطوس (ما يعني أن العراق سيخسر تصدير ٨٠% من نفطه لو أغلق مضيق هرمز أي حوالي ٢٥٠ مليون دولار يوميًا).

إن التحركات الإيجابية للسعودية والعراق باتجاه كل منها إلى الآخر والتفسيرات أو الأسباب الكامنة وراءها والمشار لأبرزها عاليه، كانت محلاً لتقييمات مختلفة من المراقبين الذين انقسموا بشأنها ما بين متفائل وبين من يدعون لعدم المبالغة في التفاؤل، وكل له حججه وتبريراته بهذا الشأن، ولو بدأنا بالفريق الذي يدعو لعدم المبالغة في التفاؤل سنجد أنه يرى أنه على الرغم من أهمية التطورات الأخيرة، فإنها لا تمنح الرياض أفضلية على طهران في السباق على ممارسة أكبر نفوذ على العراق، وذلك بسبب الإرث الشيعي المشترك بين العراق وإيران، والسعودية رغم علاقاتها الجيدة مع السنة فإنها عليها أن تجري لمسافات طويلة حتى تلحق بإيران ويمكنها مقارعة نفوذها هناك.. أيضًا يرى هذا الفريق أن الانفتاح الأخير في العلاقات لا يعد تقاربًا نهائيًا؛ لأن هناك كمًا هائلاً من عدم الثقة والشك بين الطرفين، فهو خطوة إيجابية ولكنها تكتيكية وليست استراتيجية، وهي مرتبطة أكثر برغبة الرياض في أن يكون لها دور محوري في قمة بغداد العربية المقبلة.

كذلك يرى هؤلاء أن استراتيجية الانفتاح غير واضحة وأنها نتاج ضغوط دولية وإقليمية من أجل إنجاح القمة العربية، وفضلاً عن هذا وذاك يذهبون إلى أن إيران لن ترضى بذهاب رصيدها ونفوذها في العراق إلى محور مضاد لها في ظل ما يعانيه الحليف السوري من مصاعب داخلية، وربما لهذا السبب سارعت الحكومة العراقية لطمأنة إيران بأن هذا الانفتاح مع السعودية ليس تحولاً في سياسة العراق أو يمكن أن يؤثر على علاقته مع إيران، وأنه يسعى للعب دور بوسطه الإقليمي ولن يدخل في تحالفات أو سياسات محاور بالمنطقة.

أما الفريق المتفائل بالانفتاح العراقي السعودي، فيرى أن مجرد تحريك المياه الراكدة في حد ذاته يعتبر مكسبًا ولو مرحليًا للبلدين، وبما يعطي فرصة لالتقاط الأنفاس وإعادة النظر بحسابات المكسب والخسارة من تلك العلاقة الاستراتيجية.. أيضًا فإن اعلان تعيين سفير سعودي غير مقيم في بغداد يعد - وفقًا لهذا الفريق - بداية لتفهم سعودي لأهمية العراق والدور الذي يمكن أن يلعبه في المستقبل سواء في ظل حكومة المالكي أو أي حكومة أخرى، فالمملكة تتبنى استراتيجية جديدة تنظر بعين الاعتبار إلى دور البلد وليس الأشخاص. ودور الجغرافيا والأمر الواقع وليس التوقعات المتأثرة بتاريخ محدد أو أحداث سابقة.

كذلك يعتقد أنصار هذا الفريق أنه ليس شرطًا أن تعود العلاقات بين البلدين بوتيرة سريعة، بل يمكن أن تخضع لسياسة الخطوة خطوة باعتبار أن هذه الطريقة هي الوضع الطبيعي في مثل هذه الظروف التي تمر بها العلاقات السعودية - العراقية منذ الإطاحة بنظام «صدام حسين».

وبعيدًا عن رؤية المراقبين والمحللين لحالة الانفتاح في علاقات السعودية والعراق واختلافهم في تقييمها، فإن هذه الحالة لن تخلو من إيجابيات وفوائد عديدة على المستويين الثنائي والإقليمي.. فمن ناحية فإن عودة العلاقات ضرورة إقليمية، فالعلاقات السلمية بينهما كدولتين متجاورتين تصب في صالحهما اقتصاديًا وسياسيًا وأمنيًا بينما تخلق العلاقات المتأزمة مشاكل كبيرة تهدد الأمن القومي للبلدين.. ومن ناحية أخرى، فإن إعادة العلاقات وتبادلها على أسس واقعية تأخذ في الاعتبار مصالح الشعبين تسهمان في تخفيف حدة التجاذب والنزعات الطائفية المنتشرة في العالم الإسلامي التي تعمل قوى إقليمية على إذكاء نيرانها مستغلة شيعة العراق ودول الخليج.. ومن ناحية ثالثة، فإن عودة العلاقات ستخفف من الدورين التركي والإيراني في المنطقة باعتبار السعودية والعراق يملكان أكبر احتياطي نفطي في العالم، كما أنهما يملكان القدرة على المساهمة الكبيرة والإيجابية في حل العديد من الأزمات المنتشرة في منطقة الشرق الأوسط.































.

نسخة للطباعة

مقالات أخرى...

    الأعداد السابقة