الجريدة اليومية الأولى في البحرين



وثيقة الأزهر للحريات.. رسالة تنويرية وحجر أساس للدستور الجديد

تاريخ النشر : الأربعاء ٢١ مارس ٢٠١٢



القاهرة - من: طارق موسى
أجمع رجال الدين الإسلامي والمسيحي والعلماء والمثقفون في مصر على أهمية وثيقة الحريات العامة «التي صدرت عن الأزهر الشريف» مؤخراً، خصوصًا في هذا التوقيت الذي يمر به المجتمع المصري، مشيدين بما حملته بنود تلك الوثيقة.. وكان فضيلة الإمام الأكبر د.أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف قد أعلن وثيقة الحريات الأساسية التي تتضمن حرية العقيدة والرأي والتعبير والبحث العلمي والفن والإبداع الأدبي، لتكون أساسًا يتضمنه الدستور الذي سيتم إعداده، وتعبر الوثيقة عن رؤية المؤسسة إلى الدستور الذي سيتم إعداده، حيث شارك فى وضعها مع فضيلة الإمام الأكبر لفيف من المثقفين والعلماء من بينهم: د.محمود حمدي زقزوق، وزير الأوقاف الأسبق، ود. عمرو عبدالسميع، والكاتب جمال الغيطاني، والكاتبة نعم الباز.
وهذه الوثيقة هي الثانية التي يصدرها الأزهر بمشاركة المثقفين، بعد وثيقة مستقبل مصر، التي أدارها الأزهر قبل عدة أشهر. وجاء في نص الوثيقة: «يتطلع المصريون، والأمة العربية والإسلامية، بعد ثورات التحرير التي أطلقت الحريات، وأذكت روح النهضة الشاملة لدى مختلف الفئات، إلى علماء الأمة ومفكريها المثقفين، كي يحددوا العلاقة بين المبادئ الكلية للشريعة الإسلامية السمحة ومنظمومة الحريات الأساسية التي أجمعت عليها المواثيق الدولية، وأسفرت عنها التجربة الحضارية للشعب المصري، تأصيلاً لأسسها، وتأكيدًا لثوابتها، وتحديدًا لشروطها التي تحمى حركة التطور وتفتح آفاق المستقبل، وحرية البحث العلمي، وحرية الرأي والتعبير، وحرية الإبداع الأدبي والفني، على أساس ثابت من رعاية مقاصد الشريعة الغراء، وإدراك روح التشريع الدستوري الحديث، ومقتضيات التقدم المعرفي الإنساني، بما يجعل من الطاقة الروحية للأمة وقودًا للنهضة، وحافزًا للتقدم، وسبيلاً للرقي المادي والمعنوي في جهد موصول يتسق فيه الخطاب الثقافي الرشيد مع الخطاب الديني المستنير، ويتآلفان معًا في نسق مستقبلي مثمر، تتحد فيه الأهداف والغايات التي يتوافق عليها الجميع.
وطمأنت الوثيقة المبدعين حيث تضمنت الوثيقة بندا خاصا بحرية الإبداع، جاء فيه: ينقسم الإبداع إلى أدبي علمي يتصل بالبحث العلمي، وإبداع أدبي فني يتمثل في أجناس الأدب المختلفة من شعر غنائي ودرامي، وسرد قصصي وروائي، ومسرح وسير ذاتية وفنون بصرية تشكيلية، وفنون سينمائية وتليفزيونية وموسيقية، وأشكال أخرى مستحدثة في كل هذه الفروع.
كما أشارت الوثيقة إلى أن «الآداب والفنون في جملتها تستهدف تنمية الوعي بالواقع، وتنشيط الخيال، وترقية الإحساس الجمالي وتثقيف الحواس الإنسانية وتوسيع مداركها وتعميق خبرة الإنسان بالحياة والمجتمع، كما تقوم بنقد المجتمع أحيانًا والاستشراف لما هو أرقى وأفضل منه، وكلها وظائف سامية تؤدي في حقيقة الأمر إلى إثراء اللغة والثقافة وتنشيط الخيال وتنمية الفكر، مع مراعاة القيم الدينية العليا والفضائل الأخلاقية.وشددت الوثيقة على أن القاعدة الأساسية التي تحكم حدود حرية الإبداع هي قابلية المجتمع من ناحية، وقدرته على استيعاب عناصر التراث والتجديد في الإبداع الأدبي والفني من ناحية أخرى، وشددت الوثيقة على عدم التعرض لكل أشكال الفنون ما لم تمس المشاعر الدينية أو القيم الأخلاقية المستقرة، مضيفة: «يظل الإبداع الأدبي والفني من أهم مظاهر ازدهار منظومة الحريات الأساسية وأشدها فاعلية في تحريك وعي المجتمع وإثراء وجدانه، وكلما ترسخت الحرية الشريدة كان ذلك دليلاً على تحضره، فالآداب والفنون مرآة لضمائر المجتمعات وتعبير صادق عن ثوابتها ومتغيراتها، وتعرض صورة ناضرة لطموحاتها فى مستقبل أفضل».
رحبت الكنائس المصرية الثلاث بوثيقة الأزهر للحريات العامة، فمن جانبه يؤكد الأب الدكتور رفيق جريش، المتحدث الرسمي للكنيسة الكاثوليكية، ان توقيت توقيع الوثيقة مناسب جدا خصوصًا في ظل ظهور أفكار غريبة عن المجتمع المصري مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويشيد بتأكيد الوثيقة حرية الفن والتعبير والعقيدة، ونحن نتفق عليها وعلى محتواها. ويؤكد د. أندريا زكي، نائب رئيس الطائفة الإنجيلية، مدير الهيئة القبطية الإنجيلية، أن الوثيقة التي هي وثيقة تاريخية، تأتي في لحظة تاريخية، وبها طمأنة للداخل والخارج، ويقول: نطالب الأزهر والقوى السياسية بتفعيل الوثيقة فهي مفتاح الدولة الحديثة ونقطة الأمل في المستقبل وهدية الأزهر للثورة المصرية في عيد ميلادها الأول.
أهمية بيان الأحكام
ويشيد الدكتور صلاح فضل، رئيس الجمعية المصرية للنقد الأدبي بدور الأزهر في إصدار وثيقة منظومة الحريات الإسلامية، ويقول: لقد جاءت نتيجة للوفاق بين فئات المجتمع المختلفة، كما جاءت لتطمئن مخاوف بعض المثقفين والفنانين والأدباء الحريصين على تقديم رسالتهم بطريقة أخلاقية من دون أي خلل أو ابتزاز وكذلك جاءت لضرورة وأهمية بيان الأحكام وتعريف من لا يعرفها. إلى جانب القيام بالتدخل في حالة طرح الجهود التشريعية التي يقوم بها البرلمان من حيث تقديم ما يناهض الحريات، فأعضاء البرلمان إسلاميون ولكن غير متخصصين في الشريعة ولم يكن جميعهم دارسًا للشريعة الإسلامية ومنظومة الحريات الإسلامية جاءت من أجل مراعاة الحريات التي يرعاها الدين الإسلامي والدساتير الحديثة طبقًا للشريعة واجتهادات الفقهاء في فهمها.
حرية الاعتقاد والتعبد
ويبين د. حامد أبوطالب عميد كلية الشريعة والقانون الأسبق، وعضو مجمع البحوث الإسلامية أن الوثيقة أكدت أن للأديان الإلهية الثلاثة قداستها، وللأفراد حرية إقامة شعائرها من دون عدوان على مشاعر بعضهم أو مساس بحرمة هذه الأديان قولاً أو فعلاً ومن دون إخلال بالنظام العام، مشددة على حرية الاعتقاد، فالوثيقة تكفل لكل فرد في المجتمع أن يعتنق من الأفكار ما يشاء، من دون أن يمس حق المجتمع في الحفاظ على العقائد السماوية.
ويقول د. أبوطالب: هذا هو ما جاء به الإسلام، فالإسلام يتواءم ويعترف بالشرائع والأديان السماوية الثلاثة، يقول تعالى: «قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم» ولقد جاء القرآن أيضًا مقررًا حرية الاعتقاد في نصوص عديدة، قال تعالى: «لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي» وقال جل شأنه: «وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر».
ويوضح د. أبوطالب، أن الوثيقة أيضًا أكدت ضرورة الاعتراف بمشروعية التعدد ورعاية حق الاختلاف ووجوب مراعاة كل مواطن لمشاعر الآخرين والمساواة بينهم على أساس متين من المواطنة والشراكة وتكافؤ الفرص في جميع الحقوق والواجبات، ويقول: وهذا أيضًا هو ما قامت عليه الرسالة الإسلامية، حيث إنها تقوم على الوحدة الإنسانية بالمساواة بين أجناس البشر وشعوبهم وقبائلهم، «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم»، ومن هنا كانت دعوته تحث على كفالة الحرية والعدل والمساواة؛ فالمواطنة التي أكدتها الوثيقة هي مبدأ إسلامي أصيل قد أتى به ديننا الحنيف لتحقيق العدالة والمساواة بين مختلف الأديان والمذاهب والحرية، فالإسلام أول من رسخ حق المواطنة وجعل أهل الأديان الأخرى متساوين مع أبنائه في الحقوق والواجبات فلا تتم معاملة أهل دين أو مذهب معاملة دونية، بل إن الإسلام يحفظ لهم رفعة الشأن لهم مثلهم مثل المسلمين، فالمنهج الإسلامي يقرر كرامة الإنسان من دون تفرقة بسبب اللون أو الجنس أو العقيدة ويحفظ له كل مقومات حياته، فالمساواة مبدأ عام بين الناس جميعًا، (لهم ما لنا وعليهم ما علينا).
روح التسامح والرحمة
وتبين د. آمال يس عميد كلية الدراسات الإسلامية بجامعة الأزهر، فرع القليوبية أن الوثيقة طالبت العاملين في مجال الخطاب الديني والثقافي والسياسي في وسائل الإعلام مراعاة وتوخي الحكمة في تكوين رأي عام يتسم بالتسامح وسعة الأفق ويحتكم إلى الحوار ونبذ التعصب، وتقول: هو بالفعل ما نحتاج بشدة إليه الآن سواء أكان دينيا أو ثقافيا أو سياسيا حيث يجب أن يكون متوازنًا لا يجنح إلى التشدد ولا يجنح نحو التساهل، وأن يتسم بالقوة والوضوح، مدعمًا بالحجج والأسانيد الصحيحة، يسلك المسلك القويم والصراط المستقيم ولابد على رجال الدين وعلى كل العاملين في وسائل الإعلام المختلفة وفي الحقلين الثقافي والسياسي العمل على إشاعة روح التسامح والرحمة والتعايش، والعمل على تنمية الوعي المجتمعي، وأن يستهدف الجميع جمع الشمل ووأد الفتن، لأنه من المعلوم أنه لا يمكن لأي مجتمع أن يتقدم من دون تحقيق الوحدة بين أبنائه بكل طوائفهم، ونبذ التعصب والتشدد، كما يجب بالفعل العمل على ما جاء بالوثيقة فيكون هناك جهد موصول يتسق فيه الخطاب الثقافي الرشيد مع الخطاب الديني المستنير، ويتآلفان معًا في نسق مستقبلي مثمر، تتحد فيه الأهداف والغايات التي يتوافق عليها الجميع، فمن شأن ذلك تحقيق وحدة المجتمع وعدم تفتيته بين الخطابات المتنافرة والمتصارعة التي قد تحتوي على الكثير من المغالطات أو تنتهج التشدد أو التساهل والتهاون.
وتضيف د. آمال في تعليقها على الوثيقة: لقد أكدت الوثيقة كذلك ضرورة دعم حراك الشعوب العربية الشقيقة نحو الحرية والديمقراطية، انطلاقًا من متطلبات اللحظة التاريخية الراهنة، وحفاظًا على جوهر التوافق المجتمعي، ومراعاة للصالح العام في مرحلة التحول الديمقراطي، حتى تنتقل الأمة إلى بناء مؤسساتها الدستورية بسلام واعتدال. وهذا بالفعل مطلب على الجميع العمل على تحقيقه فنصرة إخواننا المظلومين والمستضعفين أمر يجب علينا جميعًا المشاركة فيه.
حرية الفكر والإبداع
ويوضح د. زكي محمد عثمان أستاذ الثقافة الإسلامية بكلية الدعوة - جامعة الأزهر، أن الوثيقة تؤكد حرية الرأي والتعبير والبحث العلمي والإبداع الأدبي والفني، وتؤكد أن حرية الرأي والتعبير هي المظهر الحقيقي للديمقراطية، ويقول: هذا بالفعل أمر صحيح، ولكن نؤكد أيضًا ما نبهت إليه الوثيقة وهو أن حرية الرأي ليست مطلقة من أي قيود دينية وأخلاقية موجودة في المجتمع الذي يدين بدين يدعو إلى التمسك بالأخلاق الفاضلة والتصرف الحميد، بل إنه يجب أن ندرك أنه لا يوجد على الإطلاق ما يسمى الحرية التي ليس لها حد أو سقف تقف عنده كل ألوان التصرف الإنساني، فلا يجوز المطالبة بالانحلال والفساد تحت مسمى إطلاق حرية التعبير. فهناك من يتشدقون بأن حرية الفكر والإبداع والفن والرأي مفتوحة وبلا ضوابط، وهذا تصور خاطئ، صحيح أن الإسلام يكفل حرية الرأي والفكر، لكن في إطار المحافظة على حقوق وحريات الآخرين، وعدم المساس بالنظام العام الذي يتضمن الأسس الدينية والأخلاقية والقومية التي يرتكز عليها المجتمع وتكفل له الاستقرار والسلامة، والأمر نفسه ينطبق على حرية البحث العلمي وحرية الإبداع الأدبي والفني، فلابد أن تقوم تلك الحريات على أساس ثابت من رعاية مقاصد الشريعة الغراء كما نصت الوثيقة.
ويوضح د. زكي أنه يقصد بحرية الرأي القدرة على إبداء ما يراه الشخص من دون خشية من أحد، طالما أنه يدور في الإطار المشروع لهذه الحرية، وهي تشمل حرية التعبير، عن طريق القول أو الكتابة أو الإشارة، أو الرسم أو التمثيل أو أي وسيلة أخرى وشأنها شأن جميع الحريات لا تمارس بحرية مطلقة، ويقول إنما يجب أن تُقيد بإطار معين لا تخرج عنه، فلقد شاهدنا التطاول على الذات الإلهية تحت زعم حرية الإبداع، والتطاول على الصحابة - رضوان الله عليهم- وعلى أمهات المؤمنين رضي الله عنهن تحت زعم حرية الرأي، وشاهدنا العري والإباحية تحت زعم تعبير الفن عن الواقع وكل هذا بالقطع مرفوض، فيجب أن يكون الرأي مبنيا على تحري الحق والعدل قال تعالى: «وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى» كذلك يجب أن يكون التعبير عن الرأي طيبًا، بعيدًا عن الفحش.
ويقول تعالى: «وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد» ويجب أن يكون التعبير صادقًا، وليس مجرد وهم أو ظن، فقد يؤدي القول الكاذب إلى الإضرار بالغير، وقد حذر المولى من ذلك، بقوله : «يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قومًا بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين»، فالآداب والفنون في جملتها تستهدف تنمية الوعي بالواقع لكن لا يعني ذلك استباحة كل شيء وألا تكون هناك أطر وحدود للإبداع كما يجب أن تكون حرية البحث العلمي بعيدة عن التصادم مع ما يقره الدين، وعن العبث والشطط الفكريين، فالإسلام يشجع على العلم والابتكار والسعي نحو التقدم في كل المجالات كي تتحقق النهضة للأمة والرقي وتتخذ المكانة التي تليق بها.
وكالة الصحافة العربية