ليبيا الجديدة.. هل تنجو من فخ التقسيم؟
 تاريخ النشر : الجمعة ٢٣ مارس ٢٠١٢
مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية
مصطلحات كثيرة تمت صياغتها في الغرب وتحمل معاني براقة من بينها: حقوق الإنسان، حق تقرير المصير، العولمة، ولكنه كثيرًا ما تكون هذه المصطلحات حقًا يراد به باطل، فمثلاً تستخدم حقوق الإنسان لغل يد الدولة عن حماية أمنها وإقليمها ووحدتها الوطنية.. فيما يستخدم حق تقرير المصير لتغذية النزعات الانفصالية.. أما العولمة فهي أداة للحد من السيادة الاقتصادية والثقافية للدول داخل حدودها.
والمفارقة في العالم العربي أنه في الوقت الذي لم تفعّل فيه قضايا حقوق الإنسان وحق تقرير المصير بالنسبة للفلسطينيين يجرى استخدام هذه المصطلحات في دول أخرى لتقسيمها وتعزيز هشاشتها الأمنية.. ونعتقد أنه في قابل الأيام سيكون هذا هو شكل التفاعل الدولي مع إعلان شرق ليبيا (برقة) في ٦ مارس الحالي إقليمًا يتمتع بالحكم الذاتي في إطار دولة فيدرالية، في مؤتمر شارك فيه ممثلو قبائل من الوزن الثقيل في الشرق مثل العبيدات والمغاربية والعواقير وحضره قادة جيش برقة الذي يضم ٦١ من كتائب ثوار الشرق وقادة عسكريون من وزارة الدفاع الليبية معلنين تأييدهم للإعلان الصادر عن هذا المؤتمر، في خطوة قد تعد بداية العد التنازلي لتقسيم ليبيا، الأمر الذي كان يشكل هاجسًا لدى كثيرين إبان اندلاع الثورة في ليبيا وما شهدته من تدخل عسكري خارجي لا نستطيع أن نصفه بالبراءة، وهو الهاجس الذي كان يجرى تطمينه من قبل المجلس الوطني الانتقالي بالإعلان المتكرر أن الحفاظ على وحدة ليبيا الوطنية من أهم ثوابت هذه الثورة، وهو ما تكرر عشية إعلان برقة أن طرابلس قد تستخدم القوة للحيلولة دون هذا التقسيم، الأمر الذي يشي باحتمال نشوب حرب أهلية فيما لو أخفقت المساعي السلمية ولم تحظ الحلول البديلة بالرضا الكافي، لم لا وهناك تباطؤ شديد في الإصلاح وغياب يكاد يكون كاملاً للدولة وأجهزتها التنفيذية، مع انهيار الأمن وسيطرة الميليشيات المسلحة وانتشار الأسلحة في يد الصغار والكبار في العاصمة والمدن والريف والصحارى؟
من الجدير بالذكر أن إقليم «برقة» يغطي نحو نصف مساحة ليبيا تقريبًا من وسط البلاد إلى الحدود مع مصر شرقًا وجنوبًا حتى حدود تشاد والسودان ويحوي نحو ٨٠% من احتياطيات النفط والغاز، ويضم خمسة موانئ لتصدير النفط وثلاث مصافي تكرير من أصل خمس في ليبيا كلها، كما أنه يتمتع بموقع استراتيجي متميز لامتداده الواسع على المتوسط.
إن الثورة الليبية التي انطلقت من شرقي ليبيا في ١٧ فبراير ٢٠١١ حين أعلنت في ٢٣ أكتوبر الماضي أنه بسقوط سرت ومقتل «معمر القذافي» تكون ليبيا قد تحررت، بدأت العد التنازلي لولادة ليبيا الجديدة بجدول زمني حدد شهرًا يقوم فيه «مصطفى عبدالجليل» رئيس المجلس الوطني الانتقالي بتعيين حكومة مؤقتة، على أن تقوم الحكومة في خلال ثلاثة أشهر بوضع قوانين الانتخاب الأولية، بعدها وفي خلال ثمانية أشهر يقوم الليبيون بانتخاب ٢٠٠ عضو لجمعية وضع مشروع الدستور الذي يطرح على الاستفتاء الشعبي، ويتم ذلك في خلال عام، بما يعني منتصف عام ٢٠١٣، وباعتماد الدستور شعبيا يتم انتخاب البرلمان ثم انتخاب الرئيس الجديد للجمهورية.
ولكن ليبيا بعد التحرير ظلت تفتقر إلى المؤسسات أو المنتديات الفعالة التي يمكن من خلالها مناقشة قضايا المستقبل، حتى في ظل كثرة الأحزاب والمنتديات فإنه لا يمكن أن تقوم وتعمل بفاعلية بين عشية وضحاها.. وإضافة إلى هذا التحدي، ظلت الأولوية الأولى بعد التحرير هي حل الميليشيات التي تكونت في فترة الثورة وإدماجها في الجيش وقوة الأمن الوطنية، وهو الأمر الذي أصبح شديد الصعوبة بسبب الارتباطات الولائية لهذه الميليشيات على اتساع مساحة الأرض الليبية، والمكاسب التي تتطلع كل منها إلى الفوز بها بعد التحرير على خلفية دورها في الثورة، وهو ما ظهرت ملامحه في تباطؤ عمليات تسليم الأسلحة والانخراط في القوات النظامية، بل النزاعات المسلحة بين هذه الميليشيات وبعضها بعضا، وما فاقم من الأمر أن هذه الميليشيات باتت تدير شؤون بلداتها بنفسها من دون الرجوع إلى طرابلس، ويتقاطع التنافس بين هذه الميليشيات مع تنافس آخر قائم بين بنغازي وطرابلس حول السيطرة على القطاع النفطي مع عودة هذا القطاع إلى تعافيه السريع.
وأيضًا في النقاشات المبكرة حول الدستور الليبي الجديد ظهر اتجاه لإعادة هيكلة ليبيا على أساس فيدرالي؛ بحيث تصبح هناك ولايات أو أقاليم لها حكومات بصلاحيات حكم ذاتي كبيرة، وتتمتع فيها الحكومة الفيدرالية بسلطة الحكم ماعدا هذه الصلاحيات، وفي الصلاحيات التي تتمتع بها حكومات الولايات لا يوجد تدخل من السلطة الفيدرالية.
ومن المعلوم أن دولاً كثيرة في العالم تتبنى هذا النظام، وعلى رأسها الولايات المتحدة وكندا والبرازيل والهند وألمانيا وسويسرا، كما أن ليبيا نفسها بعد الاستقلال كانت تتبع هذا النظام الفيدرالي في ظل دستور ١٩٥١، الذي كانت فيه ليبيا تتكون من ثلاث ولايات، هي: برقة، طرابلس، فزان، واستمر هذا النظام قرابة ١٢ عامًا وانتهى عام .١٩٦٣ ومع أن نظام الدولة الموحدة يعطي صلاحيات كبيرة أيضًا للمحليات، فإن دعاة الفيدرالية يرون أن السلطة المركزية غالبًا ما تتغول على سلطات المحليات، كما أن هذه الصلاحيات ليست مضمونة دستوريا.
ويذهب هؤلاء أيضًا إلى ضرورة عودة الوضع السابق قبل عام ١٩٦٣ مع تمتع السلطة الفيدرالية باختصاصات الخارجية والدفاع والصناعة النفطية والسياسة المالية والأمن الوطني ومكافحة الإرهاب والجامعات والتجارة بين الولايات والإشراف على الصحة والرفاهة والتعليم قبل العالي، وينبغي تحديد صلاحيات السلطة الفيدرالية في الدستور، وكل ما لم ينص عليه يبقى في سلطة حكومة الولايات، ومن أهمها التجارة داخل الولاية وإدارة التعليم قبل العالي وإدارة الانتخابات وإنشاء وتشغيل المؤسسات الثقافية، والشرطة وسلطات إنفاذ القانون، وإدارة المرافق الصحية والشؤون الاجتماعية، ولا تستطيع السلطة الفيدرالية إلغاء هذه الصلاحيات ما لم يتم تعديل الدستور.
ومن وجهة نظرهم ـ أي دعاة الفيدرالية ـ فإن هذا النظام هو الأقرب للديمقراطية، وأن حكومات الولايات أكثر فهمًا وقدرة على تحقيق مطالب وطموحات السكان في ولاياتها من الحكومة الفيدرالية مع صغر حجم سكان ليبيا واتساع مساحتها، فضلاً عن أن هذا يمنع استئثار إقليم بعينه بالثروة والسلطة الوطنية.. ومن المعلوم أن ليبيا تحتل المرتبة السابعة عشرة عالميا في إنتاج النفط، والسابعة من حيث احتياطي هذا النفط، ويشكل النفط ٩٤% من عوائدها من النقد الأجنبي و٦٠% من الإيرادات الحكومية و٣٠% من الناتج المحلي الإجمالي، وينبغي توزيع العائد المحقق من الثروات الطبيعية دستوريا وفق معايير الكثافة السكانية والحرمان والضرر الذي لحق كل إقليم من جراء التهميش، بما يحقق التنمية العادلة المتوازنة المستدامة لكل مناطق ليبيا من دون تمييز، وذلك على خلفية أن سكان برقة ومنطقة بنغازي عانوا التهميش طوال فترة حكم القذافي، وهو الوضع الذي يخشون أن يعود مرة أخرى.
وفي الاتجاه المقابل، فإن الدعوة إلى الفيدرالية تقابل بمعارضة شديدة من طرابلس على خلفية أن هذه الفيدرالية هي مقدمة للانفصال وتقسيم ليبيا، كما أن ليبيا لا تحوي تعددًا دينيٌّا أو عرقيٌّا يقتضي هذه الفيدرالية، فضلاً عن أن معظم النفط الليبي يقع في الشرق، وهو ما يعني استئثار سكانه بهذه الثروة.
وبين هذين الاتجاهين ـ الداعي للفيدرالية والرافض لها ـ برز اتجاه توافقي يطالب بتوسيع اللامركزية وتبني نظام الحكم المحلي لتهدئة مخاوف أهل برقة من أنه لن يكون هناك تهميش مرة ثانية، وهو الحل الذي تتبناه حكومة «عبدالرحيم الكيب»ووسط هذا النقاش المتصاعد حملت وكالات الأنباء خبر إعلان قادة وقبائل إقليم برقة في ٦ مارس إقليم «برقة» إقليمًا له صلاحيات حكم ذاتي في جمهورية ليبيا الفيدرالية، وأن هذا النظام الفيدرالي هو اختيار الإقليم الممتد من الحدود مع مصر إلى سرت الذي انتقلت منه الثورة ضد نظام القذافي، وقد تزامن مع الإعلان إنشاء مجلس برقة الانتقالي لإدارة شؤون الإقليم برئاسة الشيخ «أحمد الزبير السنوسي» ابن عم الملك الراحل «إدريس السنوسي»، وهو شخصية ذات خلفية عسكرية سجنه القذافي نحو ثلاثين عامًا، وبهذا الإعلان تتم العودة إلى دستور ١٩٥١ ورفض كل التعديلات التي جرت عليه، وكذلك رفض الإعلان الدستوري الصادر عن المجلس الوطني الانتقالي وتوزيع مقاعد الجمعية التأسيسية وقانون الانتخاب.
وبشكل عام، يثير إعلان برقة ثلاثة مخاوف على المستوى الليبي أولها أن يكون عدوى تنتشر إلى باقي أقاليم ومناطق ليبيا على خلفية الانقسام الجهوي أو القبلي، وثانيها أن تطلب مناطق أو قبائل أخرى الانضمام إلى برقة، وثالثها هو الصراع على تقسيم الموارد الموجودة داخل هذا الإقليم بينه وبين باقي البلاد، وهذه المخاوف تتعاظم في ظل ضعف السلطة المركزية واستمرار وجود أسباب تعزز ما ذهبت إليه «برقة» مثل توزيع الحقائب الوزارية والسفراء ومقاعد الجمعية التأسيسية والاعتمادات المالية اللازمة لحل المشكلات الحياتية اليومية.
ورغم تأكيد زعماء برقة في إعلانهم أن طرحهم ليس بداية لتقسيم البلاد، وأن الفيدرالية ليست انفصالاً عن الدولة، وإنما تتوخى وضع الأقاليم من خلال لا مركزية إدارية، فإن الشكل الذي خرج به الإعلان تجاوز اللامركزية إلى الاستقلالية، وذلك برفضه كل ما صدر عن المجلس الانتقالي والعودة إلى دستور قديم كان قد تم تعديله.. وهو ما يعني أن ليبيا وقعت في فخ التقسيم، وهو ما يتطلب تدخلا عربيا سريعا لمحاولة إنقاذ ليبيا التي ربما يكون تقسيمها مقدمة لتقسيم بلدان عربية أخرى، ولا يكفي هنا مجرد خروج مظاهرات مناهضة لفكرة الفيدرالية في أنحاء المدن الليبية، واستنكار مفتي الديار الليبية الإعلان، ولا حتى إعلان الخارجية المصرية رفضها المساعي الرامية لتقسيم ليبيا، الأمر يحتاج إلى تحرك جماعي مؤثر.
.