أفق
الظهورُ التحديثي المتبادل
تاريخ النشر : السبت ٢٤ مارس ٢٠١٢
عبدالله خليفة
في تطورِ الغربِ الصناعي كان ظهورُ البرجوازيةِ والعمال مشتركاً، رغم اختلافِ المكانةِ الاجتماعية لكلٍ منهما، وأشكال العيش والظهور وفرص الحياة.
القرونُ المتعددةُ من التصنيع أعطتْ توازناً في البُنى الاجتماعية بسببِ هذا الوجود الثنائي الصراعي المشترك، وأمكنت للقوتين الاجتماعيتين أن تؤثرا وتكوّنا التيارات الديمقراطية المتعددة التأثيرات والثقافة المتباينة الدلالات، وتحدثان انسجاماً تحديثياً رغم الصراعات الشديدة حيناً والتعاون المشترك حيناً آخر.
كلما كان هذا الحضور الثنائي أقدم وأعظم أثرا في تحولاتٍ كبيرة في البُنية الاجتماعية للدولةِ المعنية، كانت أشكالُ الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية ذاتَ تأثيرٍ في كلتا الطبقتين، ونجد أن الأفكارَ الليبرالية والعمالية تأخذُ حيزاً متنامياً متصارعاً ومتقارباً في التاريخ الوطني المشترك.
ولهذا يمكنُ المقارنةَ بين انجلترا في تطورها الثنائي هذا واسبانيا التي تخلفتْ عدة قرون عن تكوينِ هذه البنيةِ الصراعيةِ التعاونية، حتى ختمتها اسبانيا المريضةُ بفاشية فرانكو المُجمدة لتطورِها في القرن العشرين.
ولهذا وجدنا الرأسماليات المتأخرةَ تتسارعُ في تحويلِ العمالِ إلى عبيد، وتُجهضُ الليبراليةَ والديمقراطيةَ وتقوي النزعات الاستبدادية كما في: أمريكا وألمانيا وإيطاليا واليابان.
إضعافُ الأجورِ وكثرة التصدير وزيادة الأرباح إلى حدودها القصوى وعسكرةُ المصانعِ والحياة هذا ما كان من صفاتِ الرأسماليات التي تتأخرُ أكثر فأكثر في الوجود والديمقراطية الاجتماعية.
في الشرق كان التأخرُ عظيماً، وأي ظهور للرأسماليات راح يتطلب الحماية الحادة والأسواق المسيطر عليها داخلياً وتدني الأجور والعمال العبيد وغياب الديمقراطية والليبرالية.
بهذا كانت الرأسماليات الحكومية التي افتتحت تاريخ الشرق بدايةً من اليابان التي قادتها المغامراتُ العسكريةُ للانكسارِ والعودة لخط الرأسمالية الخاصة الديمقراطية.
لم تستطع البرجوازية والعمال أن يظهرا بشكل غربي على الطريقة البريطانية، فالطبقةُ الأولى مسحوقة في عدة تجارب والدولُ تأخذُ دورَها، ولهذا فإن الليبراليةَ والديمقراطيةَ كسماتٍ سياسيةٍ وأشكالٍ فكرية وثقافية تضمحل، لأن الدولَ أخذتْ دورَ الطبقتين المتضادتين، فهي تملكُ، وتعملُ. أي أن الموظفين الكبار هم الذين يملكون، فيما القوى الشعبية هي التي تعملُ بأجورٍ زهيدة.
الصراعُ الجدلي بين الطبقتين يختفي ظاهرياً، ويُضمرُ داخلَ المجتمع، ويصيرُ أمراضاً اجتماعيةً وفكرية وثقافية، الماركسيةُ كأداةِ تحليلٍ ونقدٍ تتدمر، وحاضنتُها الطبقةُ العاملةُ ترفضُها، لأنها تجد غيابَ المصداقية والموضوعية فيها ولكنها- أي الطبقة العاملة- لا تفهمُ سببياتَ اغترابِها عن فكرِها، والليبراليةُ منتجُ الطبقاتِ المالكة للمصانع والثروة تُلغى هي الأخرى، ويصادرُ وجودها الطبيعي، لكون الحكومات تأخذُ الدورَ الرئيسي في الانتاج وتظهرُ بصورِ المدافعين عن ملكية الشعب أو ملكية العمال من دون أن يكون ذلك.
تتعدد مظاهرُ الاغتراب هنا، وتغدو العودةُ للدين أساسية، فهو المادةُ الثقافيةُ ذاتُ التاريخ الطويل، وهو لم يختفِ، ولم يزلْ من نفوس الناس، خاصة في محتواه الجوهري كشكلٍ تعويضي عن غياب الانسجام الاجتماعي ويتخذُ مظاهرَ سياسية جديدة، وأن كانت بعضُ الأشكال العبادية قد خفتْ جماهيرياً في السابق، لكن تغدو العودةُ عودةً غيرعقلانية، مأزومةً وتعبر عن اضطرابات اجتماعية ونفسية وفكرية، فتتضخم هذه العودةُ للعبادات، ويحدث تطرف اجتماعي عبر تنامي القوى الاجتماعية ما قبل رأسمالية خاصة في مكونات الإقطاع ورفض الحداثة، فتحدث اضطراباتٌ سياسية لا تحصل على منافذ للحلول الاجتماعية.
هكذا نجدُ التكوينات القامعةَ للبرجوازية والعمال معاً وهي تظهرُ بأشكال متضخمةٍ وكاريكاتيرية أكثر فأكثر، فمنذ الاتحاد السوفيتي والصين الشعبية تظهرُ بعدهما كياناتٌ وهي تُركبُ هذه الحداثةَ المختزلةَ المسحوقة في الغابات والبراري وتقودها قبائل تؤمن بالسحر، وتمثلُ الجماهيريةُ الليبيةُ أكثر هذه الأشكال الساخرة المأساوية معاً.
يترك الغيابُ المشتركُ القليلُ أو الواسع للطبقتين المنتجتين للحداثة الكثيرَ من التشوهات، لكن المسألةَ الجذريةَ هنا ليست فقط في التكوينات العددية والنسب السكانية، ولكن في وجود النظام الليبرالي العمالي الحديث كمنظومة مرسخة في الإنتاج والبناء الاجتماعي والمنظومات الفكرية الثقافية.
في الخليج يُعوضُ ذلك بعمالة أجنبية هائلة تعيش بأشكال ما قبل رأسمالية حديثة، فيما الكثير من السكان معطلون عن العمل أو في بطالة متضخمة في المؤسسات الحكومية، ولهذا فإن الحقول الاجتماعية المختلفة تعيش ما قبل العصر الحديث. فالليبرالية لا تستطيع أن تأخذ دورها وتنمو لأن الدول هي التي كرست نفسها مكان البرجوازية. والعمال أغلبهم أجانب موسميون وحضورهم عابر رغم الاستغلال الحاد لهم. ولهذا فإن مجتمعات الخليج والجزيرة لا تستطيع أن تدخل الحداثة بهذا التركيب، كما أن الحداثة تغدو أشكالاً خارجية ومادية فقط.
ومع أي اختلالات كبيرة في العمل والثروة وفي المناطق فإن التكوينات ما قبل الرأسمالية تطل برؤوسها على هيئات مشكلات عميقة وعلى هيئات صراعات طائفية وقومية واثنية، ومع استمرار ذلك تترسخ هذه المشكلات وتصل إلى هياكل الدول.
أي أن تصعيد التكوينين البرجوازي والعمالي الوطنيين المتنوعين كإحلالين، ضروري سريع ومحدد لمشكلات البطالة والتضخم الوظيفي المكتبي والتعليم النظري، وبعيد المدى يبني قواعد مهمة مستقرة للتطور الاجتماعي السياسي المتداخل.
البرجوازية كي تغدو وطنية بحاجة إلى تطوير ورفع مستوى العمال الوطنيين وتوسيع حضورهم في المؤسسات المختلفة، والعمال كي يغدوا ديمقراطيين تحديثيين من الضروري أن يصعّدوا الليبرالية والديمقراطية في نظراتهم وعملهم النقابي السياسي.
طبقتان متصارعتان حقاً ولكن متعاونتان في تصعيد الديمقراطية والحداثة.