قضايا و آراء
من مفكرة سفير عربي في اليابان
اللاسلكي البيولوجي وقيادات «الربيع العربي»
تاريخ النشر : السبت ٢٤ مارس ٢٠١٢
دخلت منطقة الشرق الأوسط مع بدايات القرن الحادي والعشريين مرحلة جديدة من تطورها التاريخي، بعد ما عانت شعوب العالم عولمة الرأسمالية الفائقة، التي سببت تباين الثراء، وارتفاع أسعار الحاجات الأساسية للإنسان، مما أدى لانتفاضات عام 2010، لتمتد هذه الانتفاضات من مدينة نيويورك إلى شوارع لندن ولتشعل الانتفاضات الثورية والإصلاحية لما سمي «الربيع العربي»، وقد ترافقت هذه الانتفاضات بنجاح الحركات السياسية الاسلامية في الانتخابات وتسلم قياداتها السلطة، من خلال الانتفاضات والثورات، كمصر وتونس، أو من خلال الإصلاحات التدريجية، كالمملكة المغربية. وسيكون أمام هذه القيادات تحديات اصلاحية اقتصادية واجتماعية جسيمة، وستواجه تحديات تحمل الخلاف والمساءلة والنقد، وستحتاج إلى الحكمة وحسن المعاملة مع المعارضة المستقبلية، مع بدء المبادرات الخلاقة، فهل ستكون هذه القيادات على المستوى المطلوب من هذه المسئولية لبناء مجتمعات عربية مترابطة ومستقرة ومتناغمة، لتزيد الإنتاجية، وتحقق التنمية الاجتماعية والاقتصادية المرجوة في القرن الحادي والعشرين؟ أم ستكرر من جديد سلبيات الثورات العربية في القرن العشرين، لننشئ دكتاتوريات «مخزية» باسم الدين، ولتتعامل مع الاختلاف والمساءلة، بالسجن والاعتقال والتعذيب؟ وهل ستحتاج هذه القيادات الجديدة إلى قدرات متميزة من اللاسلكي البيولوجي؟
«أشي جو شي»، عبارة مشهورة باليابان، وتعني أن كل لقاء إنساني هو لحظة عمر فريدة للتواصل الإنساني ولن تتكرر، وتجب الاستفادة منها في بناء الترابط الاجتماعي، وبأفضل طريقة ممكنة، ومن دون أخطاء. هذه الفلسفة تؤكد من أهمية تطوير قدرات التواصل الإنساني، وبرزت في الديانة البوذية: الزن، ومرتبطة بتقاليد حفل الشاي الياباني. وحفل الشاي الياباني تقليد قديم وله فلسفة معينة ومرتبط بقيم إنسانية فاضلة، وينتج عنه ترابط إنساني فريد، ويولّد تناغما مجتمعيا جميلا، فقد اهتم المجتمع الياباني ومنذ نشوئه بالتواصل الإنساني بين البشر، واعتبره عاملا مهما لاستمرارية البقاء، والتعامل مع قسوة الطبيعة، وتحديات الحياة المعيشية، لتوفير راحة الإنسان، فقد كان العمل المجتمعي المشترك صفة أساسية لعملية الإنتاج الزراعي في اليابان، كما نقل حديثا للصناعة.
ويكون التواصل في المجتمع الياباني ليس فقط بين الإنسان مع أخيه الإنسان، بل أيضا مع الأشكال المختلفة من الطبيعة: الحيوانات، والنباتات، والجبال، والوديان، والأشجار، والزهور. فالشخصية اليابانية تقدس كل ما خلقه الخالق، جل شأنه، من مكونات خلقه، فنلاحظ مدى رقة التعامل مع الحيوانات، ورعاية الحدائق، وإتقان فن تقليم الأشجار، وترتيب الزهور، والاستمتاع بجمال الطبيعة، من جبال، ووديان، وانهار. كما يهتم المجتمع الياباني بالتواصل الإنساني مع الطفل منذ ولادته، فيؤخذ للمعبد للاحتفال بولادته، ويربى على حب الطبيعة وما فيها، ويتعلم الكثير عن أخلاقيات التعامل وآداب التواصل الاجتماعي في مراكز رعاية الرضع، ومراكز الحضانة، الموجهة والمراقبة من قبل وزارة التربية والتعليم والتكنولوجيا. ويدرب الطفل الياباني منذ صغره على إيجاد دائرة اتصال مجتمعية، وتتسع هذه الدائرة كلما تدرج من صف إلى صف، ومن مرحلة إلى مرحلة. ويستمر الطالب في التعرف إلى زملاء وأصدقاء جدد، ويحافظ على التواصل معهم، ويزداد عدد هذه الدوائر من الزملاء والأصدقاء مع تقدم العمر، ويحاول الياباني المحافظة على هذا التواصل طوال حياته، حتى لو ببطاقات جميلة في الأفراح، أو زيارات حزينة في الوفيات.
ويعتبر اليابانيون التواصل المجتمعي كنزا اجتماعيا ثمينا، ويبدأ بتبادل بطاقات شخصية، وهي رمز الرباط الإنساني الدائم، ومع انتهاء الدراسة الجامعية، وبدء العمل، يكون للمواطن الياباني كنز من الأصدقاء، يكونون صلة الوصل بينه وبين المؤسسات الحكومية، والشركات، والمصانع. ومن صفات الشخصية اليابانية الكرم والإخلاص، وعدم الخلط بين اجتماعيات العمل، والصداقات الخاصة والعائلية. وللمحافظة على التعامل الإنساني، واحترام الآخرين، والمحافظة على التناغم في عمل الفريق، تكون عملية صنع القرار في اليابان عملية دقيقة، وتأخذ وقتا طويلا ولكن تكون النتيجة رأي فريق متجانس ومتناغم، تسهل عملية التنفيذ وتسهم في إنجاحه. وتتصف الاجتماعات بدقة الوقت، وقلة الكلام، والنقاش. فالياباني مستمع جيد، وينصت بدقة، وقد يغمض عينه للتركيز، كما ان المناقشة الحادة شبه معدومة في الاجتماعات، فالانفعال والغضب يدخلان صاحبهما جهنم في اليابان. ويحضر الياباني أجندة الاجتماع بدقة، بعد دراسة متفحصة ودقيقة لتفاصيل ودقائق الأمور، ويبدأ صنع القرار من القاعدة حتى القمة، وإذا قررت القيادة إجراء تغييرات جديدة على القرار ترجعه مرة ثانية للقواعد لتدرسه من جديد، ولذلك يأخذ إصدار القرار وقتا طويلا، بينما يكون التنفيذ سهلا وسلسا، وملتزما بأخلاقيات العمل، ودقة الوقت المقرر.
ونستنتج من كل ذلك أن الرباط الاجتماعي قوي في اليابان، وملتزم بأخلاقيات وقيم مجتمعية راسخة، ليس فقط بين البشر، بل أيضا مع الحيوانات والطبيعة، مما أدى ذلك إلى تناغم جميل بين الإنسان وما حوله، ليصبح المواطن الياباني متزنا، وسلسا وخلوقا في التعامل مع الدولة والشعب، مما أدى إلى تكوين مجتمع مترابط متناغم ومنتج. والسؤال ما هو السر وراء هذا التوازن الاجتماعي الياباني؟ وهل من الممكن أن يستفيد العرب منه لبناء مجتمعهم في القرن الحادي والعشرين بعد انتفاضة ما سمي «الربيع العربي»؟
يصف الدكتور دانيال جوليمان في كتابه «الذكاء الاجتماعي» التواصل والترابط المجتمعيين باللاسلكي البيولوجي، ويعتقد أنه نوع من الذكاء البشري، ينمو ويتطور مع غنى تجربة التواصل الاجتماعي، ويحتاج إلى الاهتمام به في مرحلة الطفولة لتنميته من خلال البرامج التربوية التعليمية، ويعتبر نوعا مهما من الذكاء، لبناء مجتمعات متحاورة ومترابطة ومسالمة ومستقرة، لتحقق نموها الاقتصادي والاجتماعي. ولكي نتفهم هذا النوع من الذكاء، لنفترض ان العقل البشري مركز آلي مكون من شبكة معقدة من تريليونات الكومبيوترات، وبهذا المركز جهاز مسح الكتروني يحتوي على رادار يلتقط جميع الإشارات والتحركات التي تجري من حوله ويرسلها إلى جهاز خاص يحللها ويصنفها ويوزعها على الكومبيوترات الأخرى كل حسب اختصاصه. وتقوم كل وحدة وظيفية من الكومبيوترات بإصدار القرارات بعد أن تتدارسه مع الكومبيوترات المسئولة عن التفكير والذكاء الذهني، ومع الوحدات المسئولة عن الذكاء العاطفي والذكاء الاجتماعي.
وفي الحقيقة، يتكون العقل البشري من نصفين متوازيين ومتشابهين: فالمخ الأيمن مسئول عن النصف الأيسر من الجسم والمخ الأيسر مسئول عن النصف الأيمن من الجسم. ويتكون المخ من خلايا عصبية بها شبكات تواصل معقدة، تمتد لباقي الجسم من خلال الحبل العصبي الشوكي الذي تتفرع منه أعصاب تتوزع على جميع أجزاء الجسم. وتعتبر من أهم وظائف المخ هي جمع الأحاسيس من الأعضاء المسئولة عن الحواس: اللمس والشم والنظر والسمع والتذوق، بالإضافة للحاستين السادسة والسابعة. وتعتبر الحاسة السادسة نوعا من التواصل اللاسلكي بن الإنسان مع أخيه الإنسان، وهي حاسة مهمة جدا في الترابط البشري، ومرتبطة بالذكاء الاجتماعي. وتقوم هذه الحواس بجمع المعطيات التي تدور حولنا أو التي نجمعها بالدراسة والبحث، وإرسالها إلى مراكز عصبية مختلفة في العقل البشري، وتتكون هذه المراكز من عدة خلايا عصبية مختلفة المسئوليات، فبعضها مسئول عن تحليل المعلومات الحسية، وتوجيهها لمراكز أخرى، بالإضافة لمراكز التقاط لاسلكية تحلل ما يجري من أحاسيس في عقول الآخرين. وتحتوي المراكز العصبية اللاسلكية على خلايا تسمى الخلايا المغزلية، وهي تلتقط المعلومات بسرعة فائقة، وتنقلها للمراكز المتخصصة، كما أن هناك الخلايا المرآتية التي تعمل كالرادار تنظم العمل بينها وبين الخلايا في الأشخاص الآخرين. وسميت هذا الاسم لتشابه وظيفتها مع عمل المرآة حيث تنقل صورة العقول، فهي تنقل الأحاسيس من عقل إنسان إلى إنسان آخر.
كما تقوم الخلايا المرآتية بمراقبة وتحليل ما يجري في عقول الآخرين، قبل أن تظهر بأعراض معينة في الوجه، كتقلص عضلات الوجه مع الابتسامة أو الغضب، فما يحتويه عقل الإنسان من شعور وأحاسيس سلبية أو ايجابية نحو الشخص الاخر تكون بارزة ومستقبلة لاسلكيا قبل أن يظهرها بمظاهر الابتسامة أو الحزن، حتى لو حاول أن يتظاهر العكس فقد يكون حزينا أو غاضبا فيبتسم، وتظهر الابتسامة على الوجه ولكن الخلايا العصبية المرآتية تلتقط ما في داخل المخ من أحاسيس وليس ما هو بارز على الوجه، ويتميز بعض الأشخاص بتدريب هذه الحاسة وتقويتها بالخبرة والتدريب. كما أن هناك جهازا متخصصا ينظم ويبرمج عملية الالتقاط اللاسلكي هذه، يسمى «الميجدالا» وهو جهاز الإنذار المبكر، ويقع في وسط المخين. كما أن هناك عملية «اللدنة العصبية» المرتبطة بالخبرة المتراكمة من التعامل والتواصل الاجتماعيين، وتؤثر في الخلايا اللاسلكية، فتكبر حجمها وتزيد من عددها وتحسن وظائفها، وتنمو شبكة الاتصالات فيها وتزداد سرعتها وتحسن تناسق عملها، ليؤكد ذلك أن الذكاء الاجتماعي يمكن تطويره وإنماؤه بتدريب الطفل وتعليمه وإعطائه الفرصة لبناء شخصيته وتحمل المسئولية والتعامل مع مشاكله الشخصية بدون تدخل الوالدين، فتدخل الوالدين ومحاولة حل المشاكل يفقدان الطفل نمو خبرته في التعامل مع مشاكل المجتمع ومشاكل الحياة، ويؤخران ويضعفان نمو ذكائه الاجتماعي، ويقللان عدد هذه الخلايا ويصغر حجمها.
ويعتمد نجاح علاقاتنا الاجتماعية: العلاقة بن الأبناء والآباء، والعلاقة بين الزوج والزوجة، والعلاقة بين الموظف ومسئوله، وعلاقة المواطن بوطنه وحكومته وشعبه، على مدى نمو وتطور الذكاء الاجتماعي، وهو ذكاء مهم لبناء مجتمع متوازن، يحترم أفراده بعضهم بعضا، ويتقبلون ويتحملون اختلاف بعضهم عن البعض الاخر، ويتعاونون كمواطنين بين أبناء الشعب وقادته وحكومته، ويكونون قوة إنتاجية متراصة، وطبعا هذا النوع مهم جدا للقيادات السياسية في وطننا العربي وخاصة بعد التفاؤل الكبير بما سمي «الربيع العربي».
ويصف الأستاذ جوليمان التواصل الاجتماعي بتراقص باليه بين عقل واخر يرسل اشارات لاسلكية ويستقبلها بتناسق دقيق. كما يترافق هذان التواصل والتفاعل الاجتماعيان بين البشر بتغيرات متعددة تنتج عنها إفراز مواد كيماوية، تسمى الهرمونات، وهي تنظم كل عضو من أعضاء الجسم، من القلب إلى الجهاز الهضمي حتى جهاز المناعة. فحينما يكون هناك تواصل إنساني جميل تنقل فرحة الشخص وابتسامته من خلال الجهاز البيولوجي اللاسلكي إلى العقل الاخر فتبرز السعادة والأحاسيس الجميلة. وهذا الإحساس يؤدي إلى إفراز خلايا المخ مواد كيماوية تقوم بتنشيط خلايا الجسم المختلفة، فمثلا، تنشط مكونات العظم لإنتاج أعداد كبيرة من كريات الدم البيضاء، وتقوي وظيفتها، فيزداد انقسامها وتكاثرها، ويرتفع عددها ويطول عمرها الافتراضي، وينمو حجمها، وتتطور وظائفها. وكما تعلم عزيزي القارئ أن الكريات البيضاء مسئولة عن حماية الجسم من الأمراض والمكروبات، فتنتج المواد التي تقضي على الجراثيم، كما تقوم بالتهام الجراثيم والقضاء عليها. والعكس صحيح حينما نقابل شخصا عابسا أو غاضبا تنتقل الصورة العابسة إلى عقولنا، فنتضايق ونحزن، فينتج الجسم هرمونات تؤثر أثر السم في كل عضو من أعضاء جسم الإنسان، فتضعف خلاياه وتقلل انقسامها وتقرب شيخوختها.
ويناقش الأستاذ جوليمان في كتابه أيضا أهمية الذكاء الاجتماعي في دقة الانطباع الأولي عن الأشخاص، وقوة الشخصية لدى بعض القياديين، وسهولة تعرف البعض كذب الوجه، كما يلعب التفاعل الاجتماعي مع الآخرين دورا مهما في تنمية العقل وترتيبه، فالخبرة الاجتماعية تنحت عقولنا، وتغير شكل وحجم وعدد الخلايا العصبية، والشبكة الموصلة، فالتواصل الجميل بين الزوج والزوجة مثلا يشكل شبكات التواصل في المخ ويغذيه بتطوير الذكاء الاجتماعي، وبالعكس العلاقات السيئة الطويلة الأمد قد تضعف شبكات التواصل وتؤدي إلى ضمورها مع الوقت وسوء وظائفها. وتؤكد هذه الاكتشافات الجديدة ان العلاقات الاجتماعية تترك اثرا بارزا في الذهن الإنساني وتوجهه وذكائه الاجتماعي، وتنعكس على تطور ونمو الذكاء العاطفي، والذكاء الذهني، فالسعادة والتعاسة معديتان تنتقلان انتقالا لاسلكيا من شخص إلى آخر.
ويطرح الأستاذ جوليمان فكرة مهمة أخرى، هي أن كومبيوتر المخ مرتبط ببرنامج تشغيلي يعتمد على القيم والأخلاقيات الإنسانية، وحينما يتعارض السلوك الإنساني مع هذا البرنامج التشغيلي الأخلاقي، يبدأ المخ يعاني ويجهد وتظهر أعراض الاضطراب والإجهاد، وتنتهي بفقد التوازن بن العقل والذهن والضمير والجسم، ويؤدي ذلك إلى إفراز كمية كبيرة من مواد كيماوية تسمم الجسم وتسرع من قصور عمل الخلايا وتلفها، وقد ينتهي الإنسان بأمراض القرحة والضغط والكولسترول، والسرطان، ومعها السكتة القلبية والشلل النصفي الدماغي. مما يسرع شيخوخة الخلايا وقصر عمر الإنسان. ولنتذكر أن المصدر الرئيسي لمادة الكولسترول هو الطعام، ولكن في حالة الضغوط النفسية والمشدات اللاأخلاقية بين السلوك والضمير تزداد كمية بعض الهرمونات المصنعة للكولسترول الداخلي، الذي يترسب في الأنابيب الناقلة للدم: الشرايين، فتنسد. ومثلا حينما تنسد شرايين عضلة القلب، يصاب الإنسان بالجلطة مما يؤدي لموت جزء من عضلة القلب. أو قد تنسد شرايين المخ فيصاب الشخص بالشلل الدماغي النصفي.
ولنا لقاء.
* سفير مملكة البحرين في اليابان