تدهور الأوضاع الصحية في العراق والسبيل لتفادي كوارث أفدح
 تاريخ النشر : الأحد ٢٥ مارس ٢٠١٢
بقلم: د. عمر الكبيسي
في عراق ما بعد الاحتلال تفاقمت أحوال الناس وأوضاعهم سوءا ليس فقط بسبب كارثة الغزو ودماره الواسع للبنية التحتية فحسب بل كان الدمار الأوسع والأشمل لهذه البنية هو بسبب إصرار حاشية السلطة المنصبين على تغيير واجتثاث كل الموروث الوطني لمسيرة العراق الطويلة منذ انبثاق الدولة العراقية في عشرينيات القرن المنصرم وهدم كل ما حققه بناة العراق من خطوات وانجازات بناءة في طريق النهضة والبناء والإجهاض عليها عن بكرة أبيها وهكذا تم من خلال هذا الإصرار الخاطئ على اكمال مرحلة التدمير المتقصد والوصول الى مرحلة الانهيار الكامل في كل مناحي الحياة العراقية الاجتماعية والسياسية والبنوية وأصبح الترحم والتمني على وضع الماضي القريب حالة تنتاب كل العراقيين ولا استثني منهم تمنيات أقطاب السلطة انفسهم مثل د.اياد علاوي ود.موفق الربيعي ود. احمد الجلبي وتصريحاتهم حول تفاقم الكارثة في العراق الى حالة لا تطاق بعد الغزو.
ولعل اكبر الكوارث حجما وتأثيرا بعد الغزو هي الحالة التي تمخض عنها تدمير هياكل الدولة الصحية والطبية والتي استهدفت الكوادر الطبية الفنية والادارية والعلمية والمنشآت الصحية والتشريعات الطبية التي بنيت وأنجزت في العراق خلال تسعين عاما من العمل الجاد والمضني بجهود فطاحل الأطباء والأكاديميين والمهنيين الإداريين والمتخصصين الذين حققوا انجازات كبيرة شهد بها الصديق والعدو واحتسب العراق بسببها واحدا من أنجح دول المنطقة بتقديم الخدمات الصحية العلاجية والوقائية وتهيئة الكوادر الطبية المتخصصة والكفؤة حتى أصبح الطبيب العراقي واحدا من أكفأ الأطباء علما وتعلما في أمهات المدارس الطبية في العالم.
من المؤسف جدا ان يتم ويستمر هدم هذا الصرح الطبي وبشكل مقصود ومنظم من قبل سلطة الاحتلال ويستمر بهدمه أطباء وساسة عراقيون تسنموا مواقع إدارة الصحة في العراق وهم لا يدركون عمق وخطورة ما يقدمون عليه على خلفية ان كل ما كان معمولا به في وزارة الصحة كان خطأ والمفروض تغييره في حين ان وزارة الصحة كانت مؤسسة فنية ومهنية متكاملة من حيث التنظيم والأداء يندر ان تكون بمستواها وزارة صحة في المنطقة استطاعت في أصعب الظروف بسبب الحروب والحصار الجائر أن تؤدي أفضل الخدمات الصحية بأرصن الدواء وأكثر الكوادر كفاءة ونزاهة، كما فتحت أكثر من عشر كليات طب ومعاهد عديدة للتمريض ومعاوني الأطباء بمختلف الاختصاصات الدقيقة ونال العراق جائزة منظمة الصحة الدولية في برامج التلقيحات في المنطقة، ناهيك عن العديد من مراكز أمراض القلب والكلى والجهاز العصبي والعقم والجهاز الهضمي وأمراض الدم والعوق والتأهيل والسرطان المتخصصة بالرغم من الحصار الطويل الظالم، ولم تكن ميزانية العراق تتجاوز ستة مليارات دولار وسعر برميل النفط كان بحدود اثني عشر دولارا وفي أوسع تخصيص لوزارة الصحة بعد اتفاقية النفط مقابل الغذاء والدواء قبل الاحتلال بعام لم يتجاوز ما مخصص لوزارة الصحة مليار دولار.
أما اليوم ففي ظل ميزانية تزيد تخصيصاتها على مائة مليار دولار لا يتم تخصيص اكثر من ٢% منها لوزارة الصحة مقارنة بما يعادل ١٨% من تخصيصات ميزانية السعودية و١٠% من تخصيصات ميزانية الأردن لوزارتي الصحة.
في العراق تشير الإحصائيات المعلنة إلى وجود أكثر من ٦ ملايين مريض نفسي وأكثر من مليون ونصف مليون معوق وأكثر من ٢٠% طفل مصاب بسوء تغذية ومليوني مهجر داخلي وزيادة كبيرة بأمراض السرطان وأمراض القلب والأمراض المعدية والأوبئة ناهيك عن إصابات العنف والتفجيرات والحرائق والتلوث مع هجرة واسعة لأكثر من ٧٠% من الأطباء والكوادر الطبية والتدريسيين خارج العراق بعد الاحتلال.
أثارتني اليوم لكتابة هذا المقال مقابلة أجرتها فضائية الشرقية مع المفتش العام لوزارة الصحة الدكتور عادل محسن كان المحاور فيها يتحدث عن تدهور الوضع الصحي ويتطرق الى ظاهرة الاعتداء على الاطباء في حين كان المفتش العام يستعرض انجازات عديدة لوزارته فتطرق الى زيارة وزير الصحة لألمانيا وكان هو بمعيته قبل عودته الى لندن وذكر ان انجازات الزيارة تمخضت عن صفقة شراء سيارات إسعاف ولكن مع مشروع شراء خدمة منظومة خدمة الإسعاف في حين ان منظومة الإسعاف التي طورها الدكتور صباح باقر سنين عديدة قبل الاحتلال كانت من أروع ما استحدثته وزارة الصحة في حينها خلال فترة الحصار، وكوادر الصحة تشهد بكفاءة هذه المنظومة وخدماتها وانجازات هذا الطبيب الذي مازال يعمل في الوزارة رغم سنوات الاحتلال العجاف. كما تطرق السيد المفتش إلى التعاقد لبناء مركز متقدم لأمراض القلب على غرار مركز الماني كبير وعريق ولكن بسعة ٦٠٠ سرير في بغداد يحتوي على ١٣ مختبرا للقسطرة وصالات عمليات و١٢٠ سريرا للعناية المركزة وانا كطبيب قلب ومدير لمركز القلب سابقا ، أحسب ان انشاء مثل هذا المركز وبهذا الحجم يعد كارثيا اذ المعمول به هو تعدد المراكز بسعات صغيرة في جميع العراق فوجود مركز كبير يعني احتواء كل الكوادر الموجودة حاليا لتشغيله وهي لا تكفي أساسا لذلك بما يعني حرمان المحافظات الأخرى من هذه الخدمات ولو ذهبت الوزارة الى تطوير المراكز الحالية في بغداد وفتح خمسة مراكز جديدة لأمراض القلب بسعة خمسين أو مائة سرير لكل من محافظات البصرة والموصل وكركوك والأنبار ومحافظة في الفرات الأوسط كأن تكون النجف او الديوانية كمرحلة أولى للسنوات الخمس القادمة وتوزعت الكوادر على هذه المحافظات تمهيدا لنشرها بعدئذ في المحافظات الأخرى لكانت النتائج والفوائد والخدمات أفضل.
إن إدارة مركز للقلب بـ ٦٠٠ سرير ليست مهمة سهلة، سنحتاج إلى ٥٠٠ منتسب لكل مائة سرير في هذا المركز ونحتاج كل صالة عمليات لإجراء عملية القلب المفتوح الواحدة إلى كادر طبي متمرس تعداده ١٥ فردا يعمل بشكل متواصل بمعدل خمس ساعات لكل عملية ولو حدث في مثل هذا المركز حالة تلوث جرثومي واحدة في صالة عمليات او اي حادث فني او طارئ اخر لتوقف عمل الجراحة اما بشكل دائم وإما لزمن طويل قبل التأكد من عقامته، سنحتاج لإعداد جراح ماهر في اختصاص القلب نحتاج إلى فترة لا تقل عن ثماني سنوات متواصلة من التدريب في حين ان عدد جراحي القلب العاملين في العراق اليوم لا يتجاوز عددهم أصابع يد واحده، ترى كم جراحا اختصاصيا نحتاج عند افتتاح هذا المركز؟
ان بناء المراكز المتخصصة الكبيرة والمستشفيات الكبيرة الحجم كما موجود في لايبزك او هامبورغ في المانيا او بابورث وبرومتن في انجلترا وفي دول اخرى يتم تقليص حجمها او غلقها بسبب كلفها العالية واصبح وجودها إرثا يعتز به تمثل استمرار نهج قديم لم يعد يتناسب مع ضرورة توزيع الخدمات وسهولة إدارة المستشفيات الصغيرة التي تلبي حاجة المدن والأطراف والتوزيع السكاني ونقل المعرفة والكفاءة والتنافس بالأداء بين حواضن المرضى.
في اوروبا اليوم تغلق المراكز الكبيرة لجراحة القلب في المستشفيات الكبيرة لكلفتها الباهظة ويتم استخدام مراكز جراحية صغيرة حكومية تابعة او ملحقة بمستشفيات عامة او تتم الاستفادة بالتعاقد مع مراكز متخصصة غير حكومية لإجراء العمليات الجراحية للقلب لقاء دفع الوزارة مبلغا ثابتا لكلفة العملية لهذه المراكز لتقليص الكلفة الى النصف عن كلفتها في المستشفيات الحكومية التي تترهل فيها حجوم الكوادر بشكل لا يتناسب مع حجم العمليات المجراة ويتجاوز قوائم الانتظار كما في ايطاليا وسويسرا ودول اخرى.
ليعلم السيد وزير الصحة والمفتش العام ان تخصيصات وزارة الصحة من الميزانية الحالية كاملة لا تفي بمتطلبات هذا المركز الكبير وادامة العمل فيه، ان حالة استقطاب المرضى الى العاصمة من المحافظات حالة ليست صحية وليست صحيحة والمطلوب هو توزيع الكوادر والكفاءات على التوزيع السكاني للمدن والمحافظات وهذا هو ما كان مخططا له ان يكون قبل الاحتلال وما يجب ان يستمر العمل به بعد الاحتلال، ما حدث اليوم هو ان المراكز التي كانت تعمل في بغداد بكفاءة عالية لم تعد تعمل كما كانت بسبب كلفتها ولهذا اصبح المرضى يتقاطرون على الهند وايران وتركيا والأردن وسوريا والمراكز الأهلية في شمال العراق التي استقطبت قسما كبيرا من اطبائنا بسبب الظروف الأمنية في حين تعجز مراكز بغداد الأربعة بكل كوادرها عن إجراء ثماني عمليات جراحية للقلب المفتوح يوميا كانت تجرى في مركز واحد هو مركز بن البيطار قبل الاحتلال، وفي زمن التقشف والحصار، وسبب هذا هو هجرة الكوادر ونقص الإمكانيات والتجهيزات والتخصيصات المالية المطلوبة.
التخطيط السليم للنهوض بالواقع الصحي ينبغي ان يكون واقعيا مبنيا على موروث رصين وسليم بتطوير واعمار الموجود الذي تم انجازه وبناء ما يتم التخطيط لبنائه وليس من خلال محاولة تدمير ما هو موجود واجتثاثه وتبني مشاريع خيالية وعقود صعبة التحقيق وغير مضمونة النجاح لأهداف مسيسة تتبناها دول عديدة توسلا وتشبثا تارة من المانيا وتارة من فرنسا وقبلها من بريطانيا وامريكا لإقامة اتفاقيات وهمية وشراء عقود خدمة وعمل ما أنزل الله بها من واقع على أرض العراق سبق ان تمت مناقشتها وتم رفضها لعدم جدواها الاقتصادية والعلمية في العراق المعروف برصانة وخبرة كفاءاته الطبية وانجازاته العلمية.
المطلوب اليوم الاعتناء بمراكزنا الطبية ومستشفياتنا الرائدة التي أدت مهماتها بشكل رائع في كل الأزمات التي عرفها العراق والحفاظ على كوادرها ودعمها ماليا وعلميا لاستعادة قدرتها وسعتها وكفاءتها لتكون نواة للتوسع والتجديد بعدئذ قبل ان يستمر تدهورها وفقدان ثقة محتاجيها بها وكي لا تصبح المستشفيات الأهلية النفعية والعيادات الخاصة الملاذ البديل مع انها لا ترقى بتجهيزاتها وكفاءتها الى مستشفياتنا الحكومية وبدون ان ترقى مستشفياتنا الحكومية وخدماتنا الصحية الحكومية الى مستوى رفيع وكفء، لا يمكن ان يرقى مستوى وأداء المستشفيات الخاصة، لأن المستشفيات التعليمية هي معمل انتاج الكفاءة والمهارة الطبيتين والإبداع.
المدرسة الطبية العراقية قبل الاحتلال ولعقود من الزمن سبقته مدرسة رائعة بانجازاتها ومسيرة نزيهة مخطط لها سواء كانت تعليمية لإعداد أطباء او في مجال تصميم وهندسة البناء او صناعة الدواء أو تدريب الأكفاء وإعداد الإداريين والمديرين، وكل ما هو مطلوب ان تعود هذه الكفاءات الطبية والعلمية والفنية من شتاتها آمنة ومرحبا بها لتستمر بمسيرة النهوض الشامل للصرح الطبي على موروثه الأصيل الذي لم توغل فيه امراض السياسة والتحزب ولم تمسسه الطائفية ولا المحاصصة العرقية الضيقة، بدون ذلك لن تقوم في العراق للطب قائمة ولا صحة دائمة، طالما بقيت شمعة التعليم الطبي خامدة ،وصناعة الدواء جامدة، وعقود الدواء والتجهيز كاسدة، وموجات الاطباء والكوادر الطبية مهاجرة وشاردة، واستهداف الأطباء والعلماء تجارة سائدة، وتوزيع المناصب والإدارات والقيادات في المؤسسات الصحية وفق محاصصات للكفاءة والنزاهة فاقدة.
أي نهوض طبي نتأمل للعراق في ظل ميزانية خيالية فاقت مائة مليار دولار نصيب وزارة الصحة منها يقل عن مليارين مع بقاء وجود نسبة فساد مالي بحدود ٣٠% داخل الوزارة باعتراف مفتشها العام الثابت بمنصبه منذ الاحتلال بالرغم من جهوده المضنية، وتحقيقات لجان النزاهة المعلنة وتوصية مجلس النواب بإقالته لكفاءته العالية، وهو يقدم نفسه للحضور عند افتتاح أحد المراكز الطبية المنجزة في إحدى المحافظات بأنه يفتتح المركز نيابة عن دولة السيد المالكي حامي المذهب ورئيس الوزراء، وهو الذي بعد ان تبادل مع وزير الصحة السابق الدكتور صالح الحسناوي كيلا من التصريحات يتهم كل منهم الاخر بالفساد وعدم النزاهة في مجلس النواب يعزف الى العرف العشائري ودفع الفصل لتسوية الموضوع؟
* كاتب وسياسي عراقي
.