الجريدة اليومية الأولى في البحرين


قضايا و آراء


بهجت أبوغربية بين القضية الجامعة والهوية الجامعة

تاريخ النشر : الاثنين ٢٦ مارس ٢٠١٢



شاءت الأقدار أن يبصر بهجت أبوغربية النور في القدس وفي عام توسط حدثين بالغي الخطورة في تاريخ أمتنا عموماً، وفلسطين خصوصاً، أولهما معاهدة سايكس بيكو التي تقاسم فيها المستعمرون وطننا العربي الكبير، وثانيهما وعد بلفور الذي أطلق مشروع قيام الكيان الصهيوني في قلب أمتنا كحارس لتجزئة هي بدورها تضمن قيامه وبقاءه وتوسعه.
ولعل ولادة أبي سامي في ذلك العام بخاصة (عام 1916)، وفي قلب عاصمة فلسطين، القدس، التي كان الجنرال البريطاني اللنبي يتهيأ لدخولها ليعلن انتهاء حروب الفرنجة على بلادنا، فيما كان الجنرال الفرنسي غورو يقف على ضريح القائد الكبير صلاح الدين الأيوبي في دمشق ليعلن «ها قد عدنا يا صلاح الدين...»، لعل هذه الولادة في مكانها والزمان حملت راحلنا الكبير مسؤولية مزدوجة؛ مسؤولية مقاومة المشروع الصهيوني من دون هوادة، ومسؤولية مقاومة مشروع التجزئة والتقسيم من دون مهادنة، وهما بالفعل وجهان لحقيقة واحدة، ومقاومة واحدة، ومسؤولية واحدة، اختار لها بهجت ابوغربية طوال عمره المديد والحافل بالتضحية والبذل السخي، عنواناً واحداً هو تلازم فلسطين والعروبة، بل تلازم معركة تحرير فلسطين مع معركة تحقيق الوحدة العربية، أي تكامل القضية الجامعة مع الهوية الجامعة، مترجماً في كل لحظة مقولة شهيرة للكاتب اللبناني الراحل نجيب عازوري: «ان القرن العشرين سيكون قرن صراع بين حركتين: الحركة الصهيونية والحركة القومية العربية»، فكان القرن الذي عاشه أبوسامي هو بالفعل قرن الصراع بين الحركتين وكان راحلنا الكبير قائداً ومناضلاً ومقاتلاً في الحركة القومية العربية التي هي تكامل حركات وطنية تأتي الحركة الوطنية الفلسطينية في مقدمها.
على طريق التلازم بين فلسطين والعروبة كان بهجت أبوغربية مناضلاً عابراً لكل ثورات الشعب الفلسطيني، فتفتّح وعيه الوطني والقومي مع ثورة القسام وأحراش يعبد، ليصبح مقاتلاً وقائداً في ثورة 1936 -1939، ثم أحد قادة الجهاد المقدس عام 1948 برفقة القائدين الشهيدين الكبيرين عبدالقادر الحسيني، وابن حماة المجاهد سعيد العاص، مدافعاً عن القدس بكل حواريها وأزقتها، بل عن كل مقدساتها، حاملاً تجربته الثورية إلى الحركة القومية العربية ممثلة في حزب البعث الذي احتل مواقع قيادية فيه سنوات، والتجربة الناصرية التي حمل تقديراً خاصاً لجمال عبدالناصر، وصولاً إلى الثورة الفلسطينية المعاصرة التي ما غاب راحلنا الكبير يوماً عن معاركها ومواقعها وقواعدها عبر رحلة امتلأ معها جسده الغض بجراح المواجهات المسلحة مع العدو، وامتلأت معها رزنامة حياته بسنوات السجن الممتدة عبر العقود.
لكن ما هو أقسى من كل تلك الجراح والقيود بالنسبة إلى بهجت ابوغربية هو ذلك الاتهام السطحي له حيناً والمشبوه حيناً آخر، بأنه، وهو المثقل بالتجارب والخبرات ليس «واقعيا» في مواقفه ورؤاه والمبادئ والثوابت التي يتمسك بها، والتي كان يضحي بكل المناصب والمواقع من أجلها.
ولعل العزاء الكبير لراحلنا الغالي انه رأى عشية رحيله لا واقعية المناهج والسياسات والمبادرات التي كان أصحابها يتهمون أباسامي ورفاقه باللاواقعية.
فالذين اختاروا طريقا لحل القضية الفلسطينية غير طريق المقاومة اكتشفوا أنهم وصلوا إلى الجدار المسدود، والذين راهنوا على إمكانية الفصل بين واشنطن وتل أبيب بدأوا يكتشفون عقم رهانهم، مع الانكشاف المتتالي لموقف الإدارة الأمريكية الفاضح، بالالتزام الكامل والدائم والثابت بالكيان الصهيوني وسياساته وحروبه وانتهاكاته وصولاً إلى شن الحروب لحمايته بعد أن كانت مهمته أصلاً هي حماية مصالحهم وهذا ما تجلى بوضوح في الحرب الأمريكية على العراق التي وقفنا يومها مع ابي سامي لمنع وقوعها، كما وقفنا في وجهها، وفي وجه الحصار الذي سبقها.
وتشاء الأقدار أيضاً أن يشهد أبوسامي قبيل رحيله أيضاً صحوة شباب أمته الثورية الذين أكدوا بما لا يقبل الشك أنهم أبناء أمة واحدة، لم يقبل راحلنا الغالي يوماً التشكيك في وحدتها، كما أكدوا أيضاً حيوية هذه الأمة بعد أن أعلن المشككون مراراً موتها وأنها في أحسن الأحوال مجرد ظاهرة صوتية، فأدرك أبوسامي أن هذه الصحوة ستشكل نقطة تحوّل تاريخية في حياة الأمة والعالم رغم كل ما رافقها ويرافقها من اختراقات مشبوهة وتدخلات أجنبية، ومحاولات تجويف وتزييف وحرف عن مساراتها الصحيحة ودفعها في مهاوي الانقسام الأهلي والعصبيات المدمرة والتفتيت المجتمعي.
وبقدر ما كان أبوسامي رائداً في مواقفه، قائداً في مبادراته، فانه مثّل في أدائه النضالي نموذجاً يحتذي به كل مناضل ومجاهد من أبناء أمته.
لقد اكسبه انتسابه إلى عائلة مقدسية من أصول خليلية، طهارة القدس ونقاءها، وصلابة الخليل وإباءها، فبقي نقيا أبيا، صلبا شامخا، عفيفا شريفا، لم تغره المناصب لأنه احتل ما هو أرفع منها في مدارج النضال، ولم يضعف أمام إغراءات أدرك أنها زائلة زائفة أمام حقيقة الانتماء إلى وطن وأمة وقضية يستحقون كل تضحية، وتهون في سبيلهم المهج والأرواح.
وكان أبوسامي «رحمه الله» رجل مبادئ وقيم تتراجع أمامها كل الاعتبارات والصيغ والأشكال العابرة، فالأحزاب أدوات في خدمة المبادئ، والتنظيمات وسائل لتحقيق الغايات، والأطر التنظيمية مجرد صيغ تبقى في خدمة البرامج والرؤى، لذلك لم تستطع صيغة تنظيمية أن تسجنه فيها، بل كثيراً ما كان يحس بأن بعض الصيغ يتحول إلى سجون أين منها سجون المستبدين، وإلى قيود للتزمت أين منها قيود المستكبرين.
كان أبوسامي حادا في مواقفه المبدئية، لكنه كان دافئاً في علاقاته الشخصية، مدركاً أن سلامة المواقف لا تحتاج إلى شتم الآخر أو إقصائه أو إبعاده، لذلك كان الكثيرون، في كل المحافل التي جمعتني به، ينتظرون كلمات أبي سامي التي يعتز بها مناصروه لقوة منطقها وجرأتها وصدقها، كما يحترمها معارضو وجهة نظره لما فيها من حجة مقنعة، وسلامة مقاصد، ونزاهة دوافع، وتهذيب عبارات.
بين المناضلين الذين عرفناهم في مسيرة النضال الفلسطيني والعربي من كان صاحب همة تصل إلى مستوى الفداء، أو من كان صاحب رؤية تخترق كل الحجب التي تحيط بقوانين نهضتنا وقواعد تقدمنا، لكن أباسامي كان واحداً ممن امتلك الهمة والرؤية معاً، بل امتلك همّة تصوّب الرؤية، ورؤية توجه الهمة.
إن أفضل ما يمكن أن نكرّم به ذكرى راحلنا الكبير أن نؤسس من بعده منتدى للحوار والفكر باسمه، أو نعقد ندوة سنوية في ذكراه، من أجل أن نجري معا، كتلامذة في مدرسته ومدرسة غيره من رجالاتنا الكبار، مراجعات « جريئة » دائمة لمسيرة حركتنا الوطنية الفلسطينية، كما حركتنا القومية العربية، مراجعات لا تلقي اللوم في تعثرنا على الآخرين قبل أن نبحث عن أسبابها في ذواتنا، بل مراجعات تدرك كيف تميّز بين الخلاف الضروري والانقسام المضر، بين التمايز الفكري الذي يغني المسيرة وبين الفرز العصبوي الذي يدمر المجتمعات والأوطان.
وكما كانت فلسطين قضية جامعة لأبناء الأمة وأحرار العالم، والعروبة هوية جامعة روحها الإسلام وفي القلب منها مسيحية مشرقية أصيلة، فليكن بهجت أبوغربية واحداً من تلك القامات الجامعة التي يلتقي الكثيرون حولها، لا في ذكراها فقط، بل في إدراك دروس تجربتها وكنه معانيها.