كيف سيكون الوضع العربي بعد ربيع الثورات؟
 تاريخ النشر : الثلاثاء ٢٧ مارس ٢٠١٢
بقلم: حسن الأسود
بداية نتقدم لمصر وللكنيسة القبطية بأحر آيات الأسى والتعازي لرحيل الفقيد الجليل البابا شنودة، هذا الرجل الناصع البياض الواسع العلم والمعرفة قد أسكن مصر وأمته بداخله فقدم لهما ما عجز الكثير من رجال الدين عن تقديمه لأمتهم في الشرق، لقد رحل عن مصر وهي في مرحلة من أدق وأصعب مراحل بحثها عن ذاتها إنما ذلك هو قضاء الله ولا راد لقضائه كما نسأله أن يتغمده في عليين، أما نواب كتلة التيار السلفي التي انسحبت من جلسة البرلمان المصري أثناء لحظة الوقوف دقائق الحداد على روح الراحل فهذا التيار مشكوك في أصول تمويله ومرصود عدم مبالاته بما يتهدد الأمة العربية ولا يعنيه من أمر وحدتها شيء سوى تحصيل المغانم السياسية.
لقد بات من الواضح اليوم أن الدول العربية بشعوبها وحكوماتها صارت أكثر تأثرا وانكشافا أمام معادلة توازن القوى الدولية المستعر اشتعالها فلا الشعوب العربية في تقديرنا واعية بما فيه الكفاية لما يحاك في المشهد الدولي ولا هي غير قادرة على كبح جموح مشاعرها المكبوتة فترات طويلة من الزمن في مثل هذا الظرف من تحولات المشهد الدولي رغم تيقنها ان الغرب في حقيقة الأمر لا يعنيه من أمر ديمقراطية شعوب الشرق أي شاغل ومع ما يبديه من توجه إعلامي في ذلك، كما أن النُظم ربما تكون في وضع لا يؤهلها لإعطاء الانفتاح والتعددية المطلوبين نتيجة لغياب مشاريعها المُمهد لذلك الانفتاح المطلوب فغياب التأهيل الثقافي والسلوكي للأجيال وشمولية القرار السابقة جعلا من حالة التشكك والريبة حاضرة في سلوك الشارع، كما جعلا من توجس النُظم هاجسا قائما رغم وجود النيات المستجدة في تقديرنا لديها لعمليات الإصلاح والإشراك التدريجي في القرار.
إذاً إلى أين سيذهب الشرق بشعوبه وحكوماته في ظل حالة التوجس المتبادلة ؟ حتى اللحظة ما هو واضح من دفع الغرب لآليات سياسته المستجدة على الساحة العربية هو السعي لتكوين حالة من التوتر والاستنزاف تُفضي إلى تشرذم وقطيعة بين الشعوب والنظم وبين مكونات الطوائف فيما بينها، فالوضع السوري مثلاً لو ترك ليُعالج حاله بحاله في الداخل منذ البداية لربما نجح في إحلال الاستقرار بأقل الخسائر لكنه للأسف لم يستوعب متغيرات العصر وقد نجحت محاولات القوى الغربية في استدراجه لارتكاب الخطأ الأكبر واستخدام القوة المفرطة لمعالجة مطالب الشارع وبسبب ذلك البطش فقد استثار حفيظة الشارع للمزيد من المواجهة وتسبب بفتح الباب للأجندات السياسية للتدخل في شؤون الأوضاع الداخلية.
إن صناع القرار الغربي في جوهر سياستهم لا يرون في استمرار مشهد الاستنزاف من حيف مادام سيوصل ذلك البلد العربي إلى أقصى مراحل الإنهاك والتشرذم الذي سيؤدي في المحصلة إلى تصفية ذلك البلد لنفسه بنفسه؛ فالنظام ورغم التثمين لتاريخه الممانع فإنه إذا لم يوقف حجم استخدام الآلة العسكرية الباطشة فانه سيُحرق كل أوراقه أمام الرأي العام العالمي.
إن الدفع الغربي اليوم يسعى لتمهيد الطريق لوصول التيارات الإسلامية إلى دفة حكم الشعوب في الشرق ولكن مع ضمان تدجينها وجعلها أكثر تماشياً مع حاجات إسرائيل ورؤيتها للمنطقة العربية ورغم ذلك تبقى الحاجة إلى الإصلاح والتعديل في سوريا ملحة، لكن ذلك يجب ألا يتم إلا من الداخل وهنا يتحمل النظام مسؤولية تاريخية لن تكون اقل دوراً وتثميناً من رصيده التاريخي الممانع فالمسؤولية التاريخية لموقع ذلك البلد في حلقة الصراع مع إسرائيل تحتم عليه القيام بدوره المطلوب وإبداء تنازلات تصب في تماسك سوريا ووحدة كيانها، كما أن الشعب الذي احتضنه واضفى عليه مشروعية الحكم طوال السنين الماضية جدير بأن يحترم في توجهاته.
إن النظام في ظل تلك التوازنات الدولية ستبقى بيده وحده مفاتيح الحل لا بيد غيره ذلك الحل الذي يُجنب سوريا ما هو قادم من مصير قد يؤدي بسوريا للانزلاق نحو الهاوية أما مصر العروبة وقلعتها فهي ليست بأفضل حالاً من غيرها من دول الربيع العربي فقرارها حتى اللحظة لم تتضح سيادته على ذاته بل إن مؤشرات حادثة الإفراج عن الأمريكان المدانين بالتدخل في شؤون مصر إبان الثورة قد أثارت الكثير من التساؤلات حول قرار مصر، وهل مصر ستبقى مرهونة لتلك المساعدات الأمريكية إلى أمد غير معلوم رغم ما عُرف عن النجاح الظاهر لثورة الخامس والعشرين؟ إن مثل ذلك التراجع من قبل المجلس العسكري والقضاء المصري عن حفظ حقوق الأمن القومي المصري ينم عن مدى هشاشة الأوضاع الاقتصادية في مصر كما أن صمت التيارات الإسلامية المُتحصّلة على مقاعد البرلمان يؤكد وجود تلاق بين التيارات الإسلامية والمجلس العسكري لإدارة السلطة رغم أن هناك من يرى أن حاجة مصر الاقتصادية تقتضي من العقلية السياسية في هذه المرحلة التخلي عن حادثة هامشية وعدم التعنت في المواقف مقابل الحافظ على استمرار الدعم والمساعدات التي مصر في أمس الحاجة إليها وقد يكون ذلك رأيا يستحق الوقوف عليه إلا أن المؤكد إن الإدارات الأمريكية والغربية لن تسمح بخروج مصر من حالة الحاجة والعوز وعندها لن ينتهي مسلسل التنازل في أي موقف عارض.
إن مصر بحاجة في هذه المرحلة إلى سياسة شد الأحزمة على البطون وإعادة النظر في كل الاتفاقيات الاقتصادية التي ابرمها النظام السابق مع كل الجهات الخارجية كاتفاقية الغاز مثلاً مع إسرائيل واتفاقيات استخراج الذهب من منجم السكري وغيرهما بدلاً من تبني مسلسل التنازلات الذي له بداية ولن تكون له نهاية فإذا لم تُكاشف الجهة الحاكمة لمصر الشعب وتُشركه في تحمل روح المسؤولية وحساسية المرحلة وتوضح له حقيقة أن الثورة قد تخطت التحدي الأسهل وهي إشكالية التخلص من النظام في الداخل لكن الدور الأصعب يكمن في إشكالية التعاطي مع الخارج الغربي وما يفرضه من هيمنة اقتصادية ودبلوماسية على مقاليد القرار العالمي وإلا فان مصر في اعتقادنا ستظل عائمة بهذا الوضع إلى ما لا يُعلم، وما تحتاج إليه مصر في تقديرنا للحفاظ على تماسك تياراتها هو إشعال جذوة فتيل الروح الوطنية واستثارتها أمام التحديات الخارجية فاستثارة العامل الذاتي الداخلي الكامن في طاقتها في مجال التصنيع والإنتاج وتحدي الخارج هو وحده الكفيل بوضع الجماهير أمام حقيقة الضغوط الخارجية والمحاولات الحثيثة لإعادة تحجيم مصر كما كان في عهد مبارك، وفي هذا الجانب لن تكون القيادة المصرية الحالية معدومة الوسيلة لإشعال جذوة الشعور الوطني والدفع بتلاحمه فبمجرد إعادة النظر في كل الاتفاقيات التي أبرمتها مصر في ظل عهد مبارك مع القوى الخارجية فان ذلك وحده سيكون كفيلا بإدخال الجماهير كشريك فعلي في عملية التصدي لمحاولات الخارج.
إن الوضع العربي يسير إلى الفضاء غير المعلوم رغم أن حاله بعد الثورات هو أفضل طبعاً من ذي قبل لكن ما يُخشى عليه منه هو أن يُدفع به إلى التصارع الداخلي فيما بين طوائفه ونحله وبما يؤدي في المحصلة إلى المزيد من تقسيم الكيان العربي ثم يُفرض ذلك كواقع من متطلبات الديمقراطية للمنطقة، إن الشعوب اليوم هي في سكرة النشوة والسعي للتخلص من الاستبداد، فهل تنجح في شق طريقها نحو ديمقراطية صحيحة مبنية على عامل المواطنة وسيادة القانون وعلى حدود ما ورثته عن نظمها السابقة لأحجام جغرافية وتركيبات ديموغرافية للبلدان؟ إن هذا هو السؤال الأصعب الذي يُطرح اليوم تحسباً وتنظيراً لما هو قادم.
.