الجريدة اليومية الأولى في البحرين



متحمسون للثورة متعثرون في الديمقراطية

تاريخ النشر : الثلاثاء ٢٧ مارس ٢٠١٢

فهمي هويدي



إحدى خلاصات تجربة السنة الأولى من عمر الثورة المصرية أن المجتمع كان شديد الحماس للثورة، في حين أن نخبته ليست جاهزة للديمقراطية.
(1)
من يتابع بث الإعلام المصري المقروء منه والمرئي يخيل إليه أن ثمة سرادقا كبيرا نصبه البعض للعزاء في «وفاة» الثورة، في حين اصطف في جانب منه نفر من المنشدين يرثون «الفقيد» ويتحسرون على اختطافه وهو في مهده. وفي جانب آخر وقف آخرون يصرخون ويولولون معبرين عن الحسرة إزاء الحدث الجلل. وتنافس فريق ثالث في هجاء من كان السبب فيما حدث وفي حث «الثوار» على القصاص للثورة التي أجهضت والحلم الذي ضاع. ووسط أجواء لطم الخدود وشق الجيوب تتردد في الفضاء صيحات القائلين إن الثورة سرقت من أصحابها، وإن الشعب المصري صار ضحية للخديعة والاستغفال، وقائلين إنه لم تكن هناك ثورة من الأساس، وأن ما رأيناه كان فجرا كاذبا تبين أنه استنساخ للذي فات. لا جديد فيه سوى أن «الحزب الوطني» غير هيأته فارتدى عمامة، وأطلق لحيته وصار يتمتم بالبسملة طوال الوقت.
صحيح أن السرادق ليس جديدا. لكن الحشد فيه تضاعف هذه الأيام والاستنفار والتحريض بلغ الذروة، حتى تعالت بعض الأصوات محذرة من مؤامرة دبرت بليل وكارثة حلت بالبلد وداعية إلى الطعن في كل ما بني فيه حتى الآن، والتأهب لإطلاق ثورة جديدة وتشكيل مؤسسات ثورية بديلة.
لدي ملف متخم بالقصاصات والأقاويل يؤيد كل سطر مما ذكرت. وأزعم أن القارئ العادي ليس بحاجة إلى الرجوع إلى أرشيف الصحف وتسجيلات اليوتيوب، وإنما يكفيه في ذلك أن يطالع صحف الصباح لكي يجد فيها كل مقومات الشحن والتعبئة والتحريض والتبكيت.
أسوأ ما في هذه الحملة المتعددة الأبعاد أربعة أمور هي:
* أنها تحاكم الثورة على أهدافها النهائية التي لم تتحقق بعد، وليس أهدافها المرحلية التي تسعى لإنجازها على الأرض.
* إنها في أساسها تعبر عن صراعات وحسابات شريحة من المثقفين والسياسيين. الذين يحاولون جاهدين تنزيلها إلى الشارع وإشغال الرأي العام بها، في حين أن المواطن العادي مهجوس بأمور أخرى ولا علاقة له بتلك المعارك.
* إنها تحدث إرباكا في أولويات العمل الوطني، من حيث إنها تصرف الانتباه عن التحديات الكلية. المتعلقة بالنهوض الاقتصادي والعدل الاجتماعي والحريات العامة والاستقلال الوطني، وتفرض على الناس معارك أخرى هامشية وفرعية.
* إنها تروع المصريين المقيمين في الخارج وتعطي انطباعا مشوَّها ومغلوطا لغيرهم من المتابعين والمراقبين، وهو ما يلمسه كل من يحتك بهذه الدوائر، وما كان لي منه نصيب في الآونة الأخيرة. إذ وجدت درجة عالية من الإحباط والتشاؤم لدى البعض ومن الشماتة وسوء الظن لدى آخرين.(2)
خذ مثلا، المعركة التي احتدمت في مصر حول وضع الدستور الجديد، وهي التي اشتد أوارها بعدما تم الاتفاق في اجتماع مجلسي الشعب والشورى على انتخاب نصف أعضاء اللجنة التأسيسية من المجلسين والنصف الآخر من خارجهما. ذلك أنك لا تكاد تفتح جريدة أو تتابع حوارا تلفزيونيا إلا وتجد نفسك في قلب الجدل حول الموضوع. وستلاحظ على الفور، أن محور المناقشة هو عدم الثقة في ممثلي التيار الإسلامي، والخوف من أن يفرضوا على الدستور آراءهم وبصماتهم. إليك نماذج من تلك الآراء، سأحتفظ بأسماء كاتبيها منعا للإحراج.
* يريدون أن يفصّلوه على مقاسهم (الدستور)، ويقيموا إمارة دينية تعود بنا إلى العصور التي كنا فيها طوائف متفرقة مسلمين وذميين. ولم نكن مواطنين ولم نكن مصريين. وكنا رقيق أرض نسمع ونطيع. ولم نكن أمة حرة تصدر عنها وحدها كل السلطات... إن إقحام الدين في الدستور على أي نحو وبأية صيغة إفساد للدستور وتزييف له، فاستيقظوا أيها المصريون (الأهرام 24/3/2012).
* انسحبوا من لجنة صياغة دستور لن يمثل فيه كل المصريين بالتساوي، وبقدر وجودهم الحقيقي في المجتمع. انسحبوا (الكلام موجه إلى الأقلية البرلمانية) قبل أن يشعر المصريون بأن هذا الدستور لا يعبر عنهم جميعا، وانكم شاركتم في خداعهم.. انسحبوا قبل فوات الأوان، وليكن فعلكم إيجابيا، بتشكيل هيئة تأسيسية أخرى يمثل فيها كل المصريين، لتكتبوا معا دستور الثورة. (المصري اليوم 22/3).
* ما يحدث الآن في لجنة تأسيسية الدستور المصري في البرلمان، هو مهزلة بكل المقاييس والسكوت عنه جريمة، والمشاركة فيه عار على الديمقراطية.. (ذلك أن) كل الفقهاء الدستوريين في مصر يتفقون على أن البرلمان ليس جهة وضع أو صياغة بنود الدستور.. إن الضغوط الهائلة التي قامت بها جماعة الإخوان ممثلة في حزب الحرية والعدالة داخل البرلمان للوصول إلى صيغة الهيئة التأسيسية هي «اختراع» غير مسبوق. وهي نموذج لسياسة غطرسة القوة التي تمارسها الأغلبية بحق الأقلية (الشرق الأوسط 22/3).
(3)
هذه ليست أكثر من ثلاث قطرات في بحر الهجاء والتنديد. وإلى جانب التعليقات التي عبرت عن تلك المعاني، فثمة سيل آخر من الأخبار الموازية التي تحدثنا عن مقاطعة بعض أحزاب الأقلية للجنة، وعن التحضير لمسيرات مناهضة لتشكيلها وداعية إلى «إنقاذ مصر» من براثنها، وعن اعتزام القانونيين تقديم طعن يطالب بإبطال قرار تشكيل اللجنة مناصفة بين البرلمان والشخصيات العامة.
المفاجأة في هذه الحملة أن الفرضيات الأساسية التي اعتمدت عليها غير صحيحة. ذلك ان الادعاء بأن الدول «المحترمة» متفقة على أن البرلمان ليس جهة وضع أو صياغة الدستور كلام غير دقيق. إذ تكذبه الخبرة السياسية والتاريخية. علما بأن البرلمان في الحالة المصرية لن يضع الدستور، ولكنه سينتخب اللجنة المكلفة بذلك من بين أعضائه ومن خارجه. آية ذلك أن جامعة «برينستون» الأمريكية أعدت دراسة شملت 200 دستور ظهر في العالم خلال ثلاثين سنة (بين سنتي1975، 2005) بينت أن هناك 9 طرق لكتابة الدساتير. وكانت الوسيلة الأكثر استخداما، هي أن تعهد الدول إلى البرلمان المنتخب لكي يقوم بهذه المهمة. وهو ما حدث في 42% من الحالات التي تمت دراستها، في حين أن نسبة الحالات التي تم فيها وضع الدستور بواسطة لجنة تأسيسية معينة أو منتخبة من البرلمان كانت في حدود 9%. أما وضع الدستور من خارج البرلمان فلم يتم إلا في 17% من الحالات.
الخلاصة أنه خلال الثلاثين سنة التي شملتها الدراسة، فإنه في 51% من الحالات كان البرلمان إما واضع الدستور أو صاحب القرار في اللجنة أو الجمعية التي تولت إعداده وصياغته. الأمر الذي ينفي ذلك التعميم والإطلاق الذي ساقه الرافضون لتشكيل اللجنة في الحالة المصرية، ويبطل حجة الاستناد إلى الخبرة التاريخية فيما دعوا إليه. ناهيك عن أنه ليس من المنطق أن ينتخب الشعب ممثليه في البرلمان، ثم يتم إقصاء هؤلاء الممثلين عن وضع الدستور، بحجة أنهم لا يمثلون الشعب بصورة كافية. علما بأن انتخاب نسبة من خارج البرلمان يمكن أن يسد هذه الثغرة.
إنك إذا دققت النظر في المشهد، ستلاحظ أن أحزاب الأقلية هي التي ما برحت تثير الضجيج وتؤلب الرأي العام طول الوقت. منذ أن طرحت التعديلات الدستورية للاستفتاء وحتى اللحظة الراهنة. حيث لم تكن مستعدة للقبول بنتائج الممارسة الديمقراطية في أي مرحلة.
(4)
ليست المشكلة مقصورة على أحزاب الأقلية، لأن الأغلبية كان لها نصيبها منها، من حيث إنها لم تستوعب جيدا أساليب الممارسة الديمقراطية، على الأقل فيما خص طبيعة علاقتها مع الأقلية. إن شئت فقل إن الجميع دخلوا في تجربة ديمقراطية لم يألفوها منذ نصف قرن على الأقل. الأمر الذي لم يسمح باستقرار التقاليد الحاكمة لعلاقات القوى السياسية. وإذا أضفت إلى ذلك أن نحو 80% من أعضاء البرلمان حديثو عهد بالتجربة، ومنهم من هو حديث العهد بالسياسة برمتها. فلك أن تتصور حالة الارتباك والاضطراب التي تسود العلاقة في هذه الحالة. وهو ما اعترف به البعض ممن نظمت لهم محاضرات ودروس خصوصية؛ لاستيعاب الموقف الذي وضعوا فيه.
لا أتحدث عن الإخلاص والغيرة وغير ذلك من القيم التي لا أشك في توافرها لدى الجميع، لكني أتحدث عن تواضع الخبرة السياسية وارتباك الرؤية الاستراتيجية. وفي مقام آخر حذرت من ثلاث فتن تتعرض لها الأغلبية في البرلمان، فتنة الأضواء وفتنة الأغلبية وفتنة السلطة. ولا أريد أن أتسرع في الحكم، لكنني أزعم أن أداء الأغلبية حتى الآن لم يقنعني بأن رموزها محصنة ضد الافتتان بما ذكرت. إذ في ممارسات عدة، تمنيت على الأغلبية أن يكون انحيازها إلى الجماعة الوطنية أقوى من انحيازها إلى «جماعتها».. بالتالي فإنني لم أفهم ذلك الحرص على إثبات الحضور في مختلف المواقع. ولا أخفي دهشة ــ مثلا ــ من التلويح المتكرر بسحب الثقة من الحكومة والمطالبة بتشكيل حكومة ائتلافية يقودها الإخوان. الأمر الذي من شأنه أن يُحدث احتقانا في الأجواء السياسية وتراجعا في البورصة وإقلاقا للداخل والخارج ــ يضاعف من الدهشة أن تغيب عن الأذهان تلك الأصداء ويشهد الاستعداد لخوض المغامرة، في حين أن الحديث ينصب على حكومة عمرها ثلاثة أشهر فقط، تنتهي بعدها الفترة الانتقالية وينتخب خلالها رئيس جديد في ظل دستور جديد.
أدري أن الأغلبية لم ترتكب خطأ قانونيا أو دستوريا، وأنها في ممارساتها تصرفت في حدود صلاحياتها. لكنني أتحدث عن الملاءمات السياسية ومناخ التشاور والتوافق الذي نريد له أن يسود. من هذه الزاوية فإنني استغرب ذلك التكالب من جانب الجميع على توزيع الحظوظ والحصص في لجنة الدستور، حتى قلت إنه كان يكفي الأغلبية أن تتمسك بأمرين في الدستور، هما هوية البلد الإسلامية وضمانات الحريات العامة، ثم تترك الأمر بعد ذلك للآخرين يجتهدون فيه ما وسعهم الجهد.
إن التحديات التي تواجه مصر أكبر بكثير من تلك المعارك الجانبية التي تثار بين الحين والآخر، فتفرق الصف وتستهلك الجهد. لذلك تمنيت أن ينشغل الجميع برؤية تحقق للوطن الفوز وعبور الفترة الانتقالية بنجاح. وذلك أهم بكثير من فوز هذا الحزب أو ذاك بأي مغنم مهما بلغ شأنه.