الجريدة اليومية الأولى في البحرين


أفق


الخيارُ الثالثُ الصعب

تاريخ النشر : الأربعاء ٢٩ مارس ٢٠١٢

عبدالله خليفة



بين التشكيلين التقليديين السياسي والديني يظهرُ بصعوباتٍ شديدة الخيارُ الثالثُ المتجاوزُ لهما.
عبر عدةِ قرون تراوح مصيرُ الأممِ الإسلامية بين هذين الخيارين، وحتى الآن في الزمن الراهن فإن الخيارين السياسي والديني التقليديين يبقيان مسيطرين على الواقع رغم ضخامة التحركات الشعبية العربية وتبدل العالم.
سيطرة هذين الخيارين يطرح السؤال الجوهري هل سيتكرر تداولهما؟
ومنه تنبثقُ أسئلةٌ كثيرة صعبة.
فهل سيؤدي الصراع إلى انهيارهما معاً أم إلى انهيار الأبنية الاجتماعية معهما في ظل الصراعات النازفة الهيكلية؟
أم أن انتصار أحدهما سيكرر النظام التقليدي بصفات أخرى ثانوية؟
أو أن التعاون بينهما هو السبيل للخروج من هذه الأزمات البنيوية الشاملة؟
ثمة هيمنة الأجهزة التنفيذية بشكل هائل ومعها رأسماليات شمولية مُقعدة عن التبدل الديمقراطي العميق.
وثمة هيمنةٌ للمذاهب المُسيّسة ومعها قطاعاتٌ اجتماعية عاجزة عن الدخول في الحياة الاجتماعية الديمقراطية وتغيير مواقع المذاهب المهيمنة وتبدل أوضاع العاملين والنساء والأمية الثقافية المسيطرة.
السلطةُ الشاملة أجهزةً أم مذاهب أقوى حضوراً من أنظمة الحداثة الحرة الديمقراطية وهي الممكن العصري والقادرة على تجاوزهما في تركيبٍ لم يحلْ بعد.
السلطة الشاملة سياسة أم مذاهب تعوق تكون الحداثة الديمقراطية البديلة، فالسلطةُ الشاملةُ تغدو ضياعاً للمال العام والفيض الاقتصادي لا يُوجه لحل مشكلات البنية بتغيير أوضاع العمال الوطنيين وجعلهم حجر الزاوية في البناء الاقتصادي، وإلى وضع خطط اقتصادية تنموية شاملة تغير طبيعة الهياكل الاقتصادية وتشكيلات المنتجين عمالاً ورأسماليات وطنية صناعية وحرفيين.
والمذاهب حين تتحول لسلطات شاملة تعوق تحويل القوى العمالية والنساء والفلاحين والتعليم والثقافة إلى مكونات مشتركة تؤجج الثورات الصناعية التقنية.
أنظمة الحداثة الحرة هي نفي لهما، لكنها غير قادرة على تجاوزهما، فإمكانياتها لا تسمح بتملك المُلكيات العامة الكبرى، وهي غير قادرة على الصراع ضد جهتي الحكم الشامل سلطاتٍ ومذاهب.
وهي غالباً ما تدخلُ في عملياتِ التحايل والتذبذبِ بين الجهتين، وتتنوع فئاتُها بين الجهتين المؤثرتين في الحياة الاجتماعية للأنظمة، وتغيبُ المنظماتُ السياسية الجماهيرية لهذا البديل الممكن، رغم وجود الموارد المالية الكافية لهذا.
أكبر الخلل يأتي من الجانب الفكري، فلم تتكون وجهاتُ النظر الفكرية الطارحة لتجاوز القوى التقليدية. ضعف الرساميل الصناعية والعلمية التقنية الخاصة المتجذرة في الأرض وبين السكان، يترك آثاره على النواحي الذاتية، وقد تصدعتْ الليبرالياتُ العربيةُ بسبب الرهان على الشموليات المختلفة، وهي التي سحبتْ الأبسطةَ من تحت أرجلِ الرساميل الصناعية ثم أضاعتها في الحروب والصراعات الأهلية والقومية والعالمية وفي البذخ.
برزت بعضُ عناصر الرؤيةِ المستقلة كأشكالٍ استثنائية وخاصة في التحضير للثورات العربية وفي صعودها، وبروزها كجوانب استثنائية وليس رئيسية مؤثرة، يعبرُ عن هشاشةِ تكّون الليبراليات ومراوحاتها الطويلة ورهانها على الأشكال الشمولية التقليدية وعن عدم عملها السياسي وغياب منابرها المستقلة.
السير وراء عامة متحمسة لكن محدودة الرؤية ومحافظة لكنها حادة الأصوات والمتلاشية بعد زمن هو مثال على اللعب على الحبال وقطف الأصوات السريعة، لكن جلب التقليديين للمسرح السياسي العام أمرٌ ذو خطورة على التطور اللاحق ودخوله في متاهات وشموليات خطرة.
وهو موقفٌ يؤدي إلى مزيدٍ من التضحيات والخسائر، وناتج عن الاستعجال السياسي وعدم الدرس والثقة في التصريحات وليس في درس التكوينات الاقتصادية الاجتماعية وتجلياتها السياسية، وكلما زادت هشاشةُ القوى الليبرالية وعدم توحدها مع القوى الديمقراطية والعاملة، زعزعتْ عمليات التحول المستقبلية، وفاقمت الأوضاعَ سوءًا وإرباكاً للتطور التاريخي.
يتطلب ذلك الحفر السياسي على الجانبين التقليديين السياسي والديني معاً، لبلورة سياسة مختلفة، ديمقراطية وطنية قومية إنسانية، تحيل الملكيات العامة لعامةٍ فعلية، وهذا يتطلب جهوداً جبارة في التحليل والرصد والتغيير والنقد، ولإبعاد العامة المأزومة عن التداول السياسي المتشنج، عبر ازدهار فرص العمل والتثقيف والتنوير.
وكذلك يتطلب الموقف إنشاء قراءات جديدة جماهيرية للأديان تتوجه للواقعية والموضوعية، لإبعاد التوجهات السياسية المؤدلجة المفككة للجمهور.
وعلى مدى قدرة التحول السياسي من الوصول لمنابع الثروة والإنتاج ورفع مستوى دخول العاملين وتجديد حياتهم الاجتماعية والمعيشية سوف ينعكس ذلك على البرلمانات المنتخبة وتعبيرها عن التطوير الاقتصادي الاجتماعي الذي يخدم الناس ولا يغدو أشكالاً من التأزيم والصراعات الجانبية.