الجريدة اليومية الأولى في البحرين


قضايا و آراء


رجل في زمن عز فيه الرجال

تاريخ النشر : الأربعاء ٢٩ مارس ٢٠١٢



بعد تسعة أعوام على رحيله لا أكتب عنه رغبة في استدرار الدمع على فقده، وإن كان حقيقا بذلك، فما البكاء إلا على مثله، لكني استمطر الدموع الغزيرة على القيم والمثل والمبادئ التي أهدرت بعد وفاته وعلى سيول من الدماء البريئة التي أريقت (ومازالت) على مذبح «الدولة الليبرالية»، وأبكي وحق لي البكاء على الأنفس البريئة التي أزهقت (ولاتزال) على حساب «الدولة المدنية» ودفعا لجزء من فاتورة «الديمقراطية»، وأحزن على الضياع والشتات والتشرذم والتيه الذي أدخلت فيه الطائفة الشيعية في البحرين، بل البلد برمته حين تسيد المشهد من لا يعرف له نضج ولا يعلم له رزانة ولم يعهد عنه حكمة ولم تثبت له قدرة على إدارة حراك سياسي يتسم بالنضج والمعقولية والمرونة؛ بل هو «ألعوبة في يد الأحزاب» التي يحارب بالوكالة عنها بالأجساد النحيلة التي أضناها الجوع والحرمان واليأس، وهو مقاتل شرس ضد الحكومة، لكن بدروع بشرية من الأطفال والصبية حتى النساء، وبلا مسوغ شرعي ولا مبرر أخلاقي، ومن دون حساب إلى ما سوف تؤول إليه الأمور وما يترتب على الأفعال من ردود أفعال، فأحلت الحرمات، واستهدفت دور العبادة، وانفلت زمام الأمن، وأطلقت الأحقاد والضغائن من عقالها، وانتشرت «الجراثيم» التي لا تنمو إلا في مثل تلك البيئة المحتقنة الملوثة بالدماء والأشلاء، وامتلأت الصحف ووسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي بالمتسلقين والمنافقين والمحرضين والشامتين والشاتمين، وحلقت على رؤوسنا طيور الليل من بوم وخفافيش في هذا الوسط الموبوء.
وهذه البيئة أنبتت عددا ممن يعتلون منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحرضون على القتل علنا ويدعون إلى قطع الرؤوس ويبررون الأخطاء والتجاوزات والجرائم ويرسخون قبولها في أذهان العامة، ويعيدون إنتاج الجاهلية وينفثون على الناس حمم الكراهية بخطاب طائفي تحريضي مقيت أبعد ما يكون عن الدين وعن الأخلاق وعن الإنسانية؛ فتراهم في خطبهم يكفرون الآخر المختلف ويسخرون من الناس ويستصغرون الآخرين ويحطون من شأن أعراقهم وأصولهم، يحدث ذلك بعد ألف وأربعمائة سنة من قول الله سبحانه وتعالى (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، ويبررون الجرائم ويدعون إلى المنازلة الطائفية تحت سمع وبصر الجميع، بينما كلام الله عز وجل يتلى على أسماعهم آناء الليل وأطراف النهار (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا).
ولحسن حظ البحرين أن من نحتفي بعاطر ذكراه هذه الأيام كان واحدا منها، ولسوء حظها أنها فقدته مبكرا بعد أن استنهض الفئة الصامتة وكون تيارا قويا عرف باسمه يلفظ الحزبية ويتجه نحو الاعتدال والوسطية ويناهض العبث بالأرواح والممتلكات، ويحارب الأخطاء والجرائم والانتهاكات أيا كان مصدرها بشجاعة نادرة، وكان وجود الرجل الرمز يحرج الموتورين الذين ما فهموا من الدين إلا المجابهة ومن السياسة إلا الانسحابات، وكان هو بيضة القبان ورمانة الميزان، يلجأ إليه في المدلهمات حتى من يناصبونه العداء، وعندي على ما أقول شواهد.
وحده استطاع أن يحبط دسائس المتآمرين ضد الدين والوطن، وبمفرده قدر على «فضح» المؤامرات التي تحاك ضد الناس، فأراد «المفلسون» أن يعاقبوه بتشويه السمعة، ولكن لم يستطيعوا إلى ذلك سبيلا، عيروه واصطنعوا له الألقاب المهينة فما ازدادوا بذلك إلا صغارا بين الناس، اعتدوا على أكثر من دار للعبادة، لأنها تنتهج أسلوبه وتلك والله وصمة عار في جبين تاريخهم، وكان آخر الدواء هو التحشيد للهجوم على بيته لقتله وليتفرق دمه بين القرى والمناطق ولما لم يستطيعوا حين هرع الناس إلى نجدته وحماية منزله ارتدوا على المحال التجارية والدكاكين في سوق البلدة وكسروا واجهاتها وعاثوا فيها فسادا وداسوا في تلك الليلة السوداء بالسيارات رجلا وطفلا، الأمر الذي دل على إفلاسهم.
لقد أثبت بمواقفه أنه رجل في زمن عز فيه الرجال وازداد فيه أشباههم، وما قلته في سياق الكلام لا ينطبق إلا على رجل واحد فقط في تاريخ البحرين هو سماحة الشيخ سليمان المدني.