يوميات سياسية
نصائح مستر بلنت قبل 100 عام .. واليوم
تاريخ النشر : الأربعاء ٢٩ مارس ٢٠١٢
السيد زهره
أعادت هيئة قصور الثقافة في مصر قبل أيام طبع ونشر كتاب «التاريخ السري لاحتلال انجلترا مصر» من تأليف مستر الفريد سكاون بلنت.
سبق أن قرأت هذا الكتاب قبل سنوات طويلة، وأعدت قراءته قبل ايام، فهو من اهم الكتب في التاريخ المصري الحديث.
الكتاب تنبع أهميته ليس من انه يؤرخ للاحتلال البريطاني لمصر، وإنما لأنه يسجل ويحلل وقائع وأحداثا عايشها المؤلف بنفسه, وكان طرفا مباشرا وشريكا فيها، وعلى وجه الخصوص أحداث الثورة العرابية.
مستر بلنت أقام في مصر سنوات طويلة وعايش أحداث الثورة العرابية كاملة، وكان على علاقة وثيقة بعرابي ورفاقه، ولعب دورا مشهودا في الدفاع عن الثورة سياسيا وعبر الصحف البريطانية. وحين قدم عرابي ورفاقه الى المحاكمة قام بجمع الأموال من أصدقائه لتمويل الدفاع عنهم أثناء محاكمتهم.
وكان بلنت صديقا حميما للإمام محمد عبده لنحو ربع قرن. وحين انتهى من إعداد مسودة هذا الكتاب في عام 1904، راجعها وعدل فيها وأقرها محمد عبده، وكان يعتزم ان يترجم بنفسه الكتاب الى العربية لولا ان القدر لم يمهله وتوفي في العام التالي.
أصدر بلنت الكتاب بعد ذلك بالانجليزية، الى ان قامت جريدة «البلاغ» المصرية بترجمته ونشرته على حلقات في عام 1924، ثم اصدرته في كتاب بعد ذلك مع مقدمة طويلة كتبها الاستاذ عبدالقادر حمزة.
لسنا هنا بصدد الحديث عن الكتاب وما جاء به. لكن نسوق هذا لنتوقف عند واقعة محددة.
في عام 1910، عقد الحزب الوطني المصري بزعامة الزعيم الوطني محمد فريد مؤتمرا في بروكسل للتنديد بالاحتلال البريطاني لمصر.
بهذه المناسبة، كتب مستر بلنت خطابا وأرسله الى الوطنيين المصريين يقدم فيه نصائحه لهم، بوصفه بريطانيا.
هذا الخطاب يعد وثيقة مهمة. واذا تأملنا ما قاله في خطابه من نصائح، فسنكتشف انها نصائح تستحق أن نأخذ بها حتى في يومنا هذا.
ولنتأمل ما قال.
قال مخاطبا المصريين: «احذروا منا فإننا لا نريد لكم شيئا من الخير. لن تنالوا منا الدستور ولا حرية الصحافة ولا حرية التعليم ولا الحرية الشخصية. وما دمنا في مصر فالغرض الذي نسعى اليه من البقاء فيها هو ان نستغلها لمصلحة صناعتنا القطنية في منشستر، وان نستخدم أموالكم لتنمية مملكتنا الإفريقية في السودان».
ومضى يقول: «لم يبق لكم عذر اذا أنتم انخدعتم بنياتنا بعد ان وضح الأمر فيها وضوحا تاما، فاحذروا ان تنساقوا الى الرضى باستعباد بلادكم ودمارها».
وقال ناصحا القوى الوطنية في مصر: «ثابروا على ان تعارضونا معارضة جهرية جريئة كل يوم. اطلبوا بلسان واحد وفي كل فرصة ان يوضع حد لما تتألمون منه وان نعود نحن الى حظيرة القانون وان نسحب جنودنا من بلادكم وان نكف عن التدخل في شئونكم. اطلبوا ذلك فإنكم بطلبه لا تخسرون شيئا اذ نحن غرباء عنكم ومن حقكم ان تطالبونا بترككم. ذكرونا دائما، وبكل وسائل الاعلان، بألا حق لانجلترا في ان تتصرف عندكم تصرف السيد وانكم لا تريدوننا حامين لكم ولا مستشارين ولا منظمين لاداراتكم. ولا تتركوا لنا عذرا نعتذر به لندعي لأنفسنا شيئا من ذلك».
«أظهروا معاداتكم لنا بصراحة، ولكن لا تظهروها بثورات سابقة للأوان لا تفيدكم شيئا، بل بتلك الوسائل التي تستطيعها الشعوب التي تُبتلى بالاجنبي لتثبت له استياءها وهي مقاطعته في معاملاته التجارية والرسمية وفي علاقات الأفراد بعضهم ببعض».
«سالموا كل الناس ولكن لا تحاولوا ان تسالمونا لأن كل محاولة من هذا النوع معنا تذهب عبثا ولأن كل نداء توجهونه الى شعور العدل فينا وشعور الشرف والإنسانية يكون بعد اليوم موجبا للسخرية وليس له عندنا غير جواب واحد هو الاحتقار».
«لا.. لم يبق لكم الا وسيلة وحيدة لاقناعنا وهي ان تثبتوا لنا ان احتلالنا بلادكم مصدر تعب لنا ينمو دائما ومصدر خطر عظيم علينا اذا نشبت الحرب. أقنعونا بذلك اذ في اليوم الذي يفهم فيه ذهن جمهورنا الثقيل ان الفائدة من احتلال بلادكم لا توازي المتاعب والاخطار التي يسببها لنا، نرى انكم محقون ونترك بلادكم. وثقوا بأننا لن نترك بلادكم قبل ذلك بلحظة واحدة».
هذه هي النصائح التي وجهها مستر بلنت الى الوطنيين المصريين للتعامل مع البريطانيين واحتلالهم الغاشم ، قبل اكثر من مائة عام.
واذا تأملنا مليا هذه النصائح، فسوف نكتشف انها تصلح اليوم في التعامل مع امريكا وباقي الدول الغربية التي تتآمر على دولنا العربية، وتتدخل في شئونها الداخلية وتحاول تخريب مجتمعاتها، وتتخذ مواقف مرفوضة جائرة من قضايانا.
بحسب نصائح مستر بلنت، فإننا يجب في تعاملنا مع هذه الدول والقوى ان نراعي أمرين أساسيين:
الأول: اننا يجب ان ندرك إدراكا جازما أن امريكا وهذه القوى الغربية لا تريد لبلادنا العربية أي خير.. لا تريد لبلادنا ديمقراطية أو حرية أو اصلاحا أو تقدما أو نهضة.
هذه الدول لا يعنيها الا تحقيق مصالحها الأنانية الجشعة على حساب دولنا وشعوبنا حتى لو تطلب ذلك تمزيق مجتمعاتنا وإغراقها في الفتن وتقسيم دولنا.
والثاني: ان أمريكا وهذه الدول الغربية لا يصلح في التعامل معهم الاسترضاء أو الاستجداء، ولا معنى أو جدوى من مناشدتهم احترام حقوقنا أو عدم التدخل في شئوننا او مراعاة العدل والإنصاف. هذه لغة لا يفهمونها.
لا يصلح في التعامل معهم الا الرفض والمقاومة، وايصالهم الى اللحظة التي يدركون فيها انهم إن لم يراعوا مصالحنا وسيادتنا وحقوقنا، فإن مصالحهم ستكون في خطر حقيقي.
ترى، ألسنا قادرين اليوم على الأخذ بروح نصائح مستر بلنت هذه في تعاملنا مع هذه القوى المجرمة في حقنا؟