الجريدة اليومية الأولى في البحرين


أفق


تحدياتُ الحداثة

تاريخ النشر : السبت ٣١ مارس ٢٠١٢

عبدالله خليفة



تواجه الأمة العربية وهي تعود لإرثها وبناها الاجتماعية مرة أخرى إشكالية الحداثة من خلال الوعي الديني المسيّس، فهل يتخلى هذا الوعي عن الشمولية التي مشت بها كل التيارات السابقة وقادتنا لكوارث وموقفٍ متجمد أم تكون له نقلته ويقبل بالحداثة الديمقراطية؟
قمة الصراع السياسي في العالم هو الصراع بين الليبرالية والاشتراكية الديمقراطية وهو الصراع الجدلي الخلاق، أما غيره فهو ارتدادٌ للوراء.
أعطتنا أوروبا خلاصة التطور الإنساني الحديث بعد قرون من الحروب القومية والاجتماعية المختلفة، وبقيت القارات الأخرى حتى الآن مترددة أو مقلدة أو رافضة.
الصراع الديمقراطي في الصناعة هو أساس أي مجتمع.
فليس ممكناً التطور من دون المصانع، وأي مصنع يلزمه ملاكٌ وعمال، وقد أضر بنا ذلك التداخل بين الدولِ المالكة والمصانع، وضاعت الأرباحُ والأملاكُ العامة.
الصراع بين ملاك المصانع والعمال هو الصراع التعاوني الذي أنتج الفكرتين السياسيتين الكبيرتين، فيما كان اختفاؤهما سببا للشموليات المختلفة وللكوارث التي تتالت في تاريخ الأمة العربية حتى وميض الانفراج منذ تحرك تونس ويتوج ذلك في سوريا لإزالة كابوس آخر في المشرق، حين صار البعث هو مالك المصانع والثروة فيما العمال يعيشون تحت خط الفقر، وبسبب غياب الحريات الديمقراطية وغياب الصراع الجدلي بين أرباب العمل والعمال، وكان الصراع بين الليبرالية والاشتراكية الديمقراطية هو الضامن لتطور الانجازات الديمقراطية والثروة الوطنية.
فصار البعثُ يصارعُ الشعبَ كله فخسرَ الناسُ أرواحَهم وثروتهم معاً.
ولهذا فإن نموذج البعث الديني وصراعه ضد الحداثة والعلمانية وغياب صيغة الصراع بين الليبرالية والاشتراكية الديمقراطية يغدو تكراراً رهيباً آخر.
أمامنا النموذجان الهندي والصيني في كيفية التعامل مع الحداثة والديمقراطية، ففيما قبلت الصين النموذج الشمولي ومنعت التنوع والصراع الجدلي بين الليبرالية والاشتراكية الديمقراطية، فتعيش الآن ضمن ألغام كبيرة سياسية غير قادرة على نزعها، قامت التجربةُ الهنديةُ على التعاون الصراعي بين الجانبين الفكريين السياسيين للعصر، وأكدت ثورتها الصناعية والعلمية من خلال هذا التنافس، وتباينت الحكوماتُ الإقليمية والمركزية في أشكالِ وجودِها بين حكوماتٍ ليبرالية وحكوماتٍ اشتراكية تعمل في إطار وطني متعدد ومتطور، ولا توجد الملكية العامة المنخورة سياسيا وغير المراقبة كما هو حال الصين.
لكن الصين أمام ضخامة مشكلات الفقر والعمالة العاطلة وإنجازاتها الكبيرة كذلك في النمو الاقتصادي كانت تتخلص بصعوبات جمة من الفهم الايديولوجي الضيق لماركسية غير ديمقراطية غدت متحجرة فيها، وتتوجه لإعطاء هونج كونج حرية اختيار نظامها الخاص، فيما الرأسمالية البيروقراطية تشللا الأجهزةَ الحكومية فيها عن التطور الديمقراطي في الصين الكبرى.
تسمح الأشكال الحديثة لمختلف القوى الاجتماعية بالتعبير عن نفسها وبتطور مختلف أشكال الاقتصاد، وتسمح لمختلف أنواع الأديان والمذاهب بالتعايش معاً، وإثراء أبحاثها وتقاليدها بحرية كاملة.
فتعدد أشكال الملكية ووجود سلطات منتخبة متوجهة للقضايا الاقتصادية التحولية هما المهمة الرئيسية للحكومات العربية، فيما القضايا الفكرية والدينية من اختصاص القوى المدنية والعلماء والفقهاء.
إثارة الصراعات المذهبية والفكرية في شعوب صغيرة ذات أسواق متواضعة تعيشُ أزماتِ التحولِ المختلفة، تؤدي إلى مزيدٍ من تسول هذه الأنظمة للمساعدات، فيما تمثل الهند والصين عملاقين كبيرين من حيث السكان وضخامة الأسواق ومع هذا تبحثان عن مصالحهما وطرائق تطورهما الاقتصادية بدرجة أساسية وخاصة الصين التي تحاول الخروج من مأزق الشمولية ولا تدري كيف، وهو مأزق قد يفجرُ أزمةً شعبية في الصين أخطر بكثير من أزمة سوريا تحت حكم البعث، فهناك أكثر من 600 مليون عاطل وقضايا خطرة كالفقر وصراع القوميات والأديان والمناطق.
وقد عانت روسيا ولاتزال تعاني حتى الآن رفض نموذج الليبرالية والاشتراكية الديمقراطية التعاوني الصراعي، فأوجدت اشتراكية متصلبة ثم تخلت عنها نحو نظام غامض لا هو اشتراكي ولا هو ليبرالي حر.
ومازالت المخابرات تقرر التطور، فروسيا هي ذاتها تعيش المأزق السوري نفسه، في دولة هائلة والانفجار خرابٌ كبيرٌ فيها.
فيفترض في الأنظمة العربية الجديدة والقديمة كذلك الانتقال لهذا النموذج بدلاً من تحويل النموذج الجديد الواعد لشمولية كما فعلت روسيا والصين وسوريا، وتوجد آمال في تطور العرب نحو سوق جبارة، وبأشكال تعددية ديمقراطية تركز في تفجير قوى الإنتاج البشرية والمادية المعطلة.
صراع الحداثة الليبرالي الاشتراكي صعب ولكنه يتيح لأصحاب المصانع تطورها من دون أن يغفلوا العمال كقوة اجتماعية أساسية شريكة في عمليتي الإنتاج والسياسة.
والأمة العربية التي قفزت قفزة تاريخية قادرة على أن تتعلم الجوانب الكبيرة في التاريخ المعاصر.