مقالات
قمة بغداد العربية.. الأجواء والنتائج
تاريخ النشر : الثلاثاء ٣ أبريل ٢٠١٢
مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية
أخيرًا انعقدت قمة بغداد العربية الــ 23، تلك القمة التي أثارت الكثير من الجدل على مدار عامين، وتحديدًا منذ قمة سرت الـــ 22 لعام 2010، ما بين مؤيد ومتحمس لانعقادها في بغداد وبين غير متحمس على خلفية حالة عدم الاستقرار الأمني والسياسي التي يشهدها العراق.
ولو أردنا الحقيقة لم يكن هناك من متحمس لانعقاد القمة في بغداد سوى حكومة «نوري المالكي» التي عولت كثيرًا أن تساهم استضافة بلاده للقمة في عودتها إلى الحظيرة العربية وممارسة دورها العربي من جديد، كما أن الحقيقة أيضًا تقتضي الإشارة إلى أن الوضع السياسي والأمني الذي تحجج به غير المتحمسين للقمة لم يكن هو المبرر الحاسم، بل إن التوتر الذي ساد علاقات العراق مع بعض دول المنطقة، ولاسيما دول الخليج كان له دوره في عدم حماس قادة عرب للذهاب إلى بغداد.
في جميع الأحوال انعقدت القمة ؟ التي أجلت العام الماضي بسبب أحداث الربيع العربي ؟ وهي الأولى التي يستضيفها العراق منذ سقوط نظام صدام حسين والثالثة التي تستضيفها بغداد بعد قمتي 1978 و1990، وحققت حكومة «المالكي» ما سعت إليه رغم أن مستوى التمثيل العربي فيها جاء أقل من المتوقع والمطلوب؛ إذ لم يحضر سوى 10 رؤساء فقط في مقدمتهم أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد في حين اكتفى العديد من الدول بأن يمثلها وزراء الخارجية أو المندوبون الدائمون في الجامعة العربية، بينما كان غياب سوريا منطقيا بحكم تجميد عضويتها في الجامعة على خلفية الأزمة التي تشهدها حاليا.
وبعيدًا عن الحضور ومستوى التمثيل، كانت القمة الـ 23 في حد ذاتها على درجة عالية من الأهمية، وذلك بالنظر إلى الظروف والأجواء التي تمر بها المنطقة ؟ والتي كانت تستلزم اهتمامًا أكبر من القادة العرب بالقمة ؟ لأنها في حد ذاتها ترتبط بملفات وقضايا مهمة مطروحة على طاولتها.
ولو ألقينا الضوء على هذه الظروف والأجواء سنجد الآتي:
أ- جاءت في ظل أحداث الربيع العربي، التي طالت العديد من الدول العربية، وهي أحداث يزيد صعوبتها أنها ذات نهاية مفتوحة، وتفرض واقعًا سياسيٌّا جديدًا على الدول العربية، وهو ما يستلزم التحسب له والعمل على التعاطي مع هذا الواقع الجديد
ب- رغم أن سوريا من الدول التي طالتها أحداث الربيع العربي فإن تطورات الأحداث بها وما أخذته من منحى عنيف من جانب نظام «بشار الأسد»، ودخول الجامعة العربية كطرف رئيسي في الأزمة وطرحها مبادرات عديدة بهذا الشأن وسعيها إلى تدويلها، كل ذلك يجعل من هذه الأزمة أحد الملفات المهمة على طاولة القمة.
ج- تجيء في وقت تواجه فيه عملية السلام في الشرق الأوسط حالة من الجمود بسبب العراقيل التي تضعها إسرائيل أمام استئناف المفاوضات مع الجانب الفلسطيني على خلفية تمسكها بسياستها الاستيطانية وإصرارها على المضي قدمًا في سياسة تهويد القدس.
د- تأتي في وقت تدخل فيه أزمة الملف النووي الإيراني في منحنى خطر يهدد دول المنطقة العربية والخليجية بسبب سياسة التصعيد التي تنتهجها إسرائيل ومساعيها لتصفية البرنامج النووي الإيراني من خلال العمل العسكري، في حين تسعى فيه الإدارة الأمريكية إلى تأجيل هذا الخيار انتظارًا لتأثير العقوبات والجهود الدبلوماسية.
هــ - عقدت في وقت يعاني العمل العربي المشترك حالة من الجمود وربما التراجع إما بسبب الظروف التي تواجه المنطقة وحالة عدم الاستقرار التي تشهدها، وإما بسبب استمرار الخلافات العربية ؟ العربية وعدم توافر الإرادة السياسية لدى القيادات العربية لتفعيل المبادرات التي تصب في هذا الاتجاه.. ومن ثم أمل البعض أن تكون القمة نقطة انطلاق لإحياء ودفع التعاون العربي في العديد من المجالات.
وفي تلك الظروف والأجواء وارتباطها بقضايا وملفات مهمة وملحة جاء تعامل القمة في بيانها الختامي (أو إعلان بغداد) مع تلك القضايا والملفات على النحو الآتي:
- أولاً: الملف الفلسطيني، حيث تعاملت القمة مع هذا الملف من ثلاث نواح، الأولى: ما يخص عملية التسوية.. وهنا تم التركيز في الثوابت التي لا تتغير كتأكيد الالتزام بالمبادرة العربية، والانسحاب الإسرائيلي الكامل من الأراضي العربية والفلسطينية حتى حدود 4 يونيه 1967، والتوصل لحل عاجل لمشكلة اللاجئين وإقامة الدولة الفلسطينية ذات السيادة، فضلاً عن مطالبة إسرائيل بالوقف الكامل للاستيطان، وأن ترتكز المفاوضات على قرارات الشرعية الدولية ومبدأ الأرض مقابل السلام، علاوة على إزالة الجدار العازل ووقف إجراءات تهويد القدس وإنهاء الحصار الاقتصادي والعسكري المفروض على غزة.
أما الناحية الثانية: فخاصة بالمصالحة الفلسطينية، حيث وصفت القمة هذه المصالحة بأنها تعد ركيزة أساسية ومصلحة عليا للشعب الفلسطيني، ودعت القيادة الفلسطينية للالتزام بتنفيذ اتفاق المصالحة الفلسطينية الموقع في 4/5/2011، وإعلان الدوحة في 6/2/2012 لوضع حد للانقسام الفلسطيني، وتوحيد الجهود لإجراء انتخابات جديدة وتشكيل حكومة وحدة وطنية.
وبالنسبة للناحية الثالثة، فإنها خاصة بمدينة القدس، إذ أكدت دعمها الكامل لمدينة القدس وأهلها في مواجهة العدوان الإسرائيلي المتواصل عليهم وعلى مقدساتهم، خاصة المسجد الأقصى، كما أعلنت مساندتها لنتائج مؤتمر القدس الذي انعقد في الدوحة في فبراير 2012 من أجل وضع حد للانتهاكات الإسرائيلية في المدينة المقدسة.
- ثانيًا: الملف السوري، دعت القمة فيما يخص هذا الملف إلى الوقف الفوري لأعمال العنف والقتل وحماية المدنيين وضمان حرية التظاهر السلمي، كما حثت أطياف المعارضة على التعامل الإيجابي مع مقترحات «كوفي عنان» المبعوث المشترك للجامعة والأمم المتحدة، الخاصة ببدء حوار بين الحكومة والمعارضة، كما دعتها لتوحيد صفوفها وإعداد مرئياتها للدخول في حوار جدي يقود إلى تحقيق الحياة الديمقراطية.. وطالبت مجلس الأمن بإصدار قرار يستند للمبادرة العربية ويقضي بالوقف السريع والشامل لكل أشكال العنف في سوريا.
- ثالثًا: ملف العمل العربي المشترك، وهذا الملف حظي بأهمية كبيرة من القمة، وتم التعامل معه من عدة جوانب.. الأول: الدعوة إلى تسوية الخلافات العربية بالحوار الهادف والبناء والعمل على تعزيز العلاقات العربية والحفاظ على المصالح القومية مع الإشادة بالجهود العربية الرامية لتطوير منظومة العمل العربي المشترك الذي سيضطلع به البرلمان العربي ومجلس السلم والأمن العربي، بالشكل الذي يساهم في إعادة بناء المجتمع العربي المتكامل في موارده وقدراته لتحقيق العدالة الاجتماعية ومواجهة تحديات المرحلة.
أما الجانب الثاني: فخاص بالدعوة إلى تحقيق التكامل الاقتصادي العربي للنهوض باقتصادات الدول العربية، ولاسيما الدول التي شهدت تغيرات كبيرة على خلفية «ثورات الربيع العربي»، وهو الأمر الذي يتطلب دعمًا عربيٌّا يؤمن مستقبلاً زاهرًا لأجيالها.
وبالنسبة للجانب الثالث، فتناول مسألة إصلاح الجامعة العربية؛ حيث أكدت القمة أن هذا الإصلاح يتطلب دعمًا ماليٌّا لموازنتها يتمثل كمرحلة أولى في إعادة النظر في هيكلها التنظيمي من أجل تطوير مؤسساتها المتعددة وإعادة تشكيلها وتفعيل أدائها والالتزام بقراراتها.
ولقد جاء ليصب في خانة دفع العمل العربي المشترك قيام المجلس الوزاري الاقتصادي والاجتماعي الذي انعقد قبل القمة باعتماد ثلاث استراتيجيات: الأولى خاصة بالسياحة العربية، والثانية خاصة بالأمن المائي العربي، والثالثة خاصة بمواجهة الكوارث.
رابعًا: ثورات الربيع العربي، حيث أشادت القمة بالتغيرات السياسية التي جرت في المنطقة والخطوات والتطورات الديمقراطية الكبيرة التي رفعت من مكانة الشعوب العربية وعززت من فرص بناء الدولة على أسس احترام القانون وتحقيق التكامل والعدالة الاجتماعية.
ومن هذا المنطلق كانت دعوة القمة إلى تبني رؤية شاملة للإصلاح السياسي والاقتصادي، بما يضمن صون كرامة المواطن العربي وتعزيز حقوقه والعمل على إتاحة الفرصة لجيل الشباب لتمكينه من المشاركة الفاعلة في المجتمع وتوفير فرص العمل له وتطوير العمل العربي المشترك بإقامة المؤسسات التي ترعى الشباب ودورهم في صنع مستقبل بلادهم.
- خامسًا: ملف الإرهاب، حيث أدانت القمة الإرهاب بكل صوره وأشكاله وأيا كان مصدره ومهما كانت دوافعه ومبرراته، والعمل على اقتلاع جذوره وتجفيف منابعه الفكرية والمالية وإزالة العوامل التي تغذيه، فضلاً عن نبذ التطرف والابتعاد عن الفتوى المحرضة على الفتنة وإثارة النعرات الطائفية.
- سادسًا: ملف أسلحة الدمار الشامل، في الوقت الذي دعا أمير الكويت الشيخ «صباح الأحمد» إيران إلى الاستجابة للجهود الرامية إلى التوصل إلى تسوية سلمية في شأن برنامجها النووي، فإن البيان الختامي أكد الحرص على إخلاء منطقة الشرق الأوسط من الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل الأخرى، مع الترحيب بالخطوات التي تم اتخاذها تمهيدًا لعقد مؤتمر 2012 حول إخلاء المنطقة من الأسلحة النووية والدمار الشامل التي نصت عليها الوثيقة النهائية لمؤتمر مراجعة معاهدة منع الانتشار 2012، حيث أعرب القادة عن الأمل في نجاح المؤتمر لتحقيق السلام والأمن لدول المنطقة.
بعد الاستعراض السابق لمجمل الأجواء التي صاحبت القمة وأبرز الملفات التي تصدت لها يمكن الخروج بالعديد من الملاحظات البعض منها إيجابي والآخر سلبي، ولو نظرنا إلى الإيجابيات سنجد الآتي:
- إيلاء قدر كبير من الاهتمام بملف العمل العربي المشترك؛ إذ كما سبقت الإشارة أفرد إعلان بغداد مساحة كبيرة لهذا الملف، وهو ما يعبر عن توجه غير مسبوق من القمة مقارنة بالقمم السابقة، الأمر الذي يستلزم الإسراع في وضع الآليات والقيام بالخطوات اللازمة لتعزيز التعاون في المجالات كافة، حتى لا يتحول الأمر إلى مجرد تعبير عن نيات طيبة لا تقترن بالفعل أو مجرد حبر على ورق.
- مشاركة أمير الكويت في القمة تحمل دلالة مهمة، فأول مرة منذ 22 سنة يزور أمير للكويت العراق رغم الملفات والقضايا التي مازالت عالقة بين البلدين.. وهذه المشاركة قد تكون ثمرة الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء العراقي للكويت في 14/3/2012 وهي (أي المشاركة) تعبر عن بداية لمرحلة جديدة في العلاقات بين الكويت والعراق.
- يحسب للقمة تعاطيها الإيجابي مع التطورات التي تشهدها المنطقة في إطار الربيع العربي رغم ما يثار عن تخوف بعض الدول العربية من انعكاسات وتداعيات هذه الثورات عليها؛ حيث تم التعامل معها على أنها تعبير عن إرادات الشعوب في هذه الدول، كما أن الحديث عن الإصلاح السياسي والديمقراطي وتأكيد دور الشباب وإعداده للمستقبل هي أمور لم تكن معهودة في القمم السابقة.
- كان واضحًا في تعاطي القمة مع الملف السوري، وجود إصرار عربي على إيجاد حل للأزمة يوقف نزيف الدم السوري، وكان الالتفاف حول مقترحات الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان ؟ التي أعلن النظام السوري قبوله لها ؟ معبرًا عن رأي الدول العربية المشاركة التي تعتبر وقف العنف أولاً ثم إطلاق حوار سياسي بين الحكومة والمعارضة هما بداية الحل.
وبعيدا عن الايجابيات السابقة التي عكستها القمة فإن السلبيات تمثلت في الأمور التالية:
- ملحوظة لها دلالتها بالنسبة للعراق البلد المنظم للقمة، فالمتابع يلاحظ أن القمة والاجتماعات التي رافقتها سواء لوزراء الخارجية أو وزراء المال والاقتصاد ترأستها شخصيات عراقية كردية، وهذا التصدر من جانب الأكراد لقمة (عربية) أثار حفيظة العرب السنة العراقيين الذين ساءهم غيابهم التام عن المشاركة في فعالياتها.. كما أنه أمر لا تقبل به الدول العربية، وتحديدًا السعودية التي قد ترى في ذلك إصرارًا على تهميش دور السنة في معادلة السياسة العراقية، وهو أمر قد يمثل حاجزًا أمام تطور العلاقات بين البلدين.
- غياب القادة العرب عن القمة ومشاركة عدد محدود منهم لا يتناسب مع أهمية القمة، فمهما تكن المبررات كان يجب على القادة العرب الحرص على المشاركة على الأقل للتعبير عن وجود إرادة سياسية عربية تدفع إلى حل الخلافات العربية ؟ العربية وتعزز التضامن العربي حتى لا يأخذ المواطن العربي انطباعًا بأن القمة الــ23 لا تختلف عن القمم السابقة.
- كان من الواضح تجاهل القمة أمورًا كثيرة مرتبطة بالملف الفلسطيني، إذ لم تتطرق إلى ما تقوم به إسرائيل من انتهاكات مستمرة بحق الشعب الفلسطيني من مصادرة أراض، واقتلاع للأشجار المثمرة، واستمرار احتجازها ما يزيد على 12 ألف معتقل فلسطيني من دون محاكمات (الذين دفع التجاهل العربي والدولي لقضيتهم إحدى المعتقلات وهي المعتقلة «هناء شلبي» إلى الإضراب عن الطعام مدة 43 يوما وتتجه إسرائيل لإبعادها إلى قطاع غزة)، فضلاً عن استمرارها في سياسة القتل والعدوان وآخرها العدوان على غزة الذي أوقع 25 شهيدًا وأكثر من مائة جريح.
- صيغة البيان الختامي لا تختلف عن الإطار التقليدي الذي تعودته القمم السابقة، فإذا حذفت التواريخ من هذه البيانات فإنه ليس بالإمكان التفريق بينها، ولاسيما فيما يتعلق بالملف الفلسطيني، الذي أصبح يدرج في بيانات القمة من باب أداء الواجب مكتفيًا بتكرار المواقف نفسها من دون قرارات حاسمة قابلة للتطبيق، وإذا كان هناك من يرى أن اختزال بيان القمة في 9 بنود بعكس القمم السابقة التي كانت تضم من 40 إلى 50 بندًا تنتهي بعدم تطبيقها، سيجعلها قابلة للتطبيق، فإن قرارات أكثر موضوعية هي أفضل ألف مرة من قرارات لا تعدو أن تكون سوى حبر على ورق أو «مانشيتات» للصحف ينتهي الغرض منها مع انطفاء أضواء القم