مقالات
رحيل أحد رجالات الخمسينيات
تاريخ النشر : الأربعاء ٤ أبريل ٢٠١٢
غيّب الموت منذ بضعة أسابيع جاسم بن محمد بن يوسف بوحجي الذي كان يعتبر من القلائل المعروفين والباقين منذ تلك الفترة بالذات، حيث بداية المد الثوري وعلو وانتشار القومية العربية الذي فجرها ومات من أجلها الزعيم الراحل جمال عبدالناصر. عرفت بومحمد عن كثب فقط خلال تجمعات الهيئة الوطنية التي كثيراً ما كانت تقيم اجتماعاتها وتحركاتها في مختلف الميادين سواء في المنامة أو المحرق، وكان جاسم بوحجي من الذين كانوا يصولون ويجولون بين تلك التجمعات كان ذلك العصر وهو عصر الخمسينيات هو حقاً عصر جمال عبدالناصر، فلا أخبار القاهرة وجمال عبدالناصر ولا كتابات إلا مقالات حسنين هيكل ولا سوالف إلا عما يقوله المذيع المشهور أحمد سعيد في إذاعة صوت العرب. وفي ذلك الجو الحماسي كان بومحمد لا يتحدث ولا يسولف معك إلا عن تلك الأحداث والأخبار وخصوصا أخبار الهيئة الوطنية أولا بأول وعلى الرغم من انفعاله الشديد إذا تناقشت معه في بعض الأمور السياسية إلا انه يعود بالتالي إلى طبيعته الهادئة وبروده الذي اشتهر به وكأن شيئا لم يكن، والسبب أن جاسم بوحجي كان يحمل معه قلبا صافيا نقيا خاليا من الحقد والحسد والكراهية لأي انسان، إلى جانب انه كانت لديه صفات مميزة قلما تجدها في الآخرين منها الطيبة الزائدة والبساطة وحسن الخلق وهدوء النفس ثم يأتي على رأس كل هذه الصفات أو المميزات تحمله لأي أذى أو بعض المزحات و«القشمرات» الثقيلة جداً إضافة إلى المقالب التي كثيرا ما تعرض لها من أصدقائه، وهو الذي كان يقيم لهم، من وقت إلى آخر وخصوصا خلال ليالي رمضان، العزائم والغبقات الدسمة في مجلسهم الذي كثيراً ما شهد عزائم وغبقات وغيرها من مختلف المناسبات. اعتقد لو حدثت مثل تلك المقالب الثقيلة التي تعرض لها جاسم بوحجي في زماننا هذا لأصبح أصدقاء جاسم اليوم في «بوليس خانه» يحاكمون على تصرفاتهم. ذلك هو جاسم بن محمد بوحجي الذي لم يعرف الزعل قط لا ولم يعاقب أحدا في حياته.
في هذه الفترة وفي تلك الزمان بالذات ولنقل في بداية الخمسينيات كان من يملكون سيارات خاصة بهم بين الجموع الكثيرة من شباب ذلك الوقت قليل، لذلك كانت تنقلاتنا من مكان إلى آخر ومن المحرق إلى المنامة في سيارة الزميل والصديق جاسم بن محمد بن مراد وكان من ضمن العبرية أحيانا أخونا بومحمد وكان بوصلاح (جاسم محمد مراد) منذ ذلك الوقت حتى يومنا هذا، معروفا بصراحته الزائدة أو بردوده التي لا تنقصها الصراحة، فإذا تحدث في شأن من شئون السياسة أو موضوع محلي قد يكون حديث الساعة مثلا فعلى الجميع الذين في سيارته الانصياع والسكوت وإلا جعلنا نعبر جسر الشيخ حمد مشياً على الأقدام أو إذا كان مزاجه (رايق) وهادئا فيأخذنا في سيارته إلى دكان اشتهر في ذلك الزمن ببيع الكباب والخنفروش. وكان يقع هذا الدكان في أول مشارف الحد وكان دهن الكباب والخنفروش يسيل من أيدينا بينما اليوم وعندما يقدم أحدهم في مجلسه صحن الكباب تجده يلف الكبابة بورق «كلينكس» ويعصرها حتى يخرج منها «الإيدام» وكل ذلك خوفا من زيادة «الكوليسترول» ما يتلامون.
هكذا كانت أيامنا خلال ذلك الزمن الجميل لكن لكل شيء نهاية، حيث تمر الأيام ويرحل من يرحل ويسافر من يسافر وبالأخص إلى الكويت ومنهم جاسم بن محمد بوحجي الذي مكث بضعة سنين في بلد احتضنت الجميع ولاقوا فيها كل رعاية وترحيب، كان ذلك في بداية الستينيات بقليل ثم تمر الأيام مرة ثانية مسرعة ويتفرق فيها الأصدقاء والأصحاب كل اختار له وجهته أما بومحمد فقد فضل الإقامة الدائمة في إمارة الشارقة التي أحاطته بكل حفاوة واهتمام وترحيب من قبل حكامها وشيوخها ورجالاتها. كان في ذلك في السنين الأولى من السبعينيات وكان (محمد) خلال وصوله إلى هذه الإمارة الشقيقة وحتى مماته محل اعتزاز وتقدير ومحبة شعب هذه الإمارة، وقد تجلى ذلك في الجنازة الكبيرة التي شارك فيها مئات من الناس يتقدمهم حاكمهم ووزراؤهم ورجالاتهم الكبار.
رحم الله جاسم بن محمد بوحجي وأسكنه فسيح جناته.