الجريدة اليومية الأولى في البحرين


هوامش


«النهضة» التونسي يختار العقلنة بنجاح

تاريخ النشر : الأربعاء ٤ أبريل ٢٠١٢

عبدالله الأيوبي



انهالت على حزب النهضة التونسي (إسلام سياسي) الاتهامات والشتائم والنعوت البذيئة التي كان أبسطها اتهامه باستخدام الدين الإسلامي مطية للحصول على أصوات الناخبين التونسيين للوصول إلى السلطة وبعد أن حقق الحزب هذا الهدف تخلى، بحسب تلك الاتهامات، عن المبادئ «الجوهرية» للإسلام، مع أن الحزب في الحقيقة لم يتخل عن نهجه الإسلامي ومازال يؤكد توجهه الديني، وكل ما في الأمر أن حزب النهضة بموقفه الأخير إنما اختار طريق العقلنة الدينية في طريقة التعاطي مع الوضع السياسي التونسي الجديد بعد الإطاحة بنظام الرئيس زين العابدين بن علي، حيث فضل طريق التوافق مع الغالبية العظمى من القوى الوطنية التونسية من أجل بناء تونس ما بعد الثورة التي أطاحت بالنظام السابق بمشاركة جميع القوى الوطنية التونسية وليس قوى الإسلام السياسي وحدها.
في الحقيقة لا يمكن الجزم إذا ما كان موقف الحزب التونسي المذكور هو موقف نابع من قناعة حقيقية في أن تونس، كغيرها من الدول، لا يمكن بناؤها والنهوض بها وتحقيق مكاسب حياتية ومعيشية متطورة تصب في صالح جميع فئات الشعب التونسي، إلا من خلال نظام سياسي يستوعب مختلف مكونات الشعب التونسي بتوجهاتها الأيديولوجية المختلفة، وتتسع ساحتها لاحتضان جميع القوى السياسية بعيدا عن أي تسلط فكري، خاصة إذا كان هذا التسلط مسنودا بتوجهات دينية، حيث يستخدم الدين غطاء وستارا لممارسة الديكتاتورية السياسية والفكرية.
تطور الأوضاع السياسية في تونس كفيل بأن يحكم إذا ما كان موقف حزب «النهضة» الأخير يستند إلى قناعة فكرية وعقلنة سياسية تضع مصالح الشعب التونسي بمكوناته كافة فوق المصالح الحزبية والعقدية الضيقة أم لا، ولكن من حيث المبدأ، فإن هذا الموقف هو الخيار العقلاني في فترة التحول السياسي الذي تشهده تونس بعد الإطاحة بالنظام السابق، وهو النظام، وعلى الرغم من كل مساوئه السياسية، فإنه تمكن من بناء مجتمع تونسي منفتح ومتعدد التوجهات الفكرية حققت فيه المرأة التونسية مكاسب كبيرة لا يمكن شطبها أو التراجع عنها، فالمجتمع التونسي يتسم بهامش واسع جدا في مجال الحريات الاجتماعية، خاصة في جوانبها الشخصية.
فإذا ما استمر حزب النهضة التونسي الإسلامي انتهاج طريق العقلنة السياسية في تعاطيه مع الشأنين السياسي والاجتماعي في تونس، فإنه يمكن أن يكون الأنموذج في علاقة أحزاب الإسلام السياسي في الدول العربية مع مختلف القوى السياسية والمجتمعية في بلدانها، فتجربة تركيا في هذا المجال يمكن وصفها بالتجربة الناجحة، وإن كان من الصعب نقلها آليا وتعميمها على مختلف البلدان، فإنه يمكن الاهتداء بها لرسم مثل هذه العلاقة، وربما حزب النهضة التونسي وضع هذه التجربة أمامه وهو يتخذ قراره السياسي فيما يتعلق بالتشريع في الدستور التونسي.
من غير الممكن في أي مجتمع يتسم بالتعددية الدينية أو المذهبية أو العرقية، وبغض النظر عن تفاوت النسب بين هذه المكونات، أن تفرض مصدرا واحدا للتشريع يطبق على جميع هذه المكونات، فاللجوء إلى هذا الخيار يعني مصادرة حقوق الآخرين، وهم الأقليات في مثل هذه الحالات، وبالتالي فإن الغالبية التي تستغل الديمقراطية وصناديق الاقتراع لفرض وصايتها الدينية على هذه المكونات، إنما تمارس شكلا من أشكال الديكتاتورية، وبالتالي فإنها على المدى البعيد لن تبني وطنا متماسكا، وإنما ستكون النتيجة تمزقا وطنيا وضعفا في الانتماء الوطني، حيث لن تنعم الأقليات بحقوق المواطنة الحقيقية الكاملة.
لكن هل تستوعب جميع قوى الإسلام السياسي التي تحولت إلى قوى سياسية مؤثرة في جميع البلدان العربية، خاصة في الدول التي تسمح بالعمل السياسي العلني، الرؤية التي تحلى بها حزب النهضة التونسي؟ وهل تستفيد من تجربة شقيقها الأكبر في تركيا؟ لا تبدو الإجابة عن هذين السؤالين صعبة، فالمؤشرات التي تصدر عن غالبية هذه القوى تقول إنها لا تميل، بل غير قادرة على هضم التوجه النهضوي التونسي، فالأصوات التي تصدر عن جماعة الاخوان المسلمين في مصر مثلا، وهي أحدث قوة من قوى الإسلام السياسي تصعد إلى سدة الحكم، تتجه نحو الأسلمة الكاملة للتشريع ضاربة بعرض الحائط حقوق المواطنين المصريين من الطوائف الدينية والمكونات المجتمعية الأخرى، بل ذهب بعضهم إلى المطالبة بفرض الجزية على الأقباط في مصر.
لكن تجربة حزب النهضة التونسي الإسلامي إذا ما استمرت على نهج العقلنة السياسية وحافظت على علاقة الشراكة الحقيقية مع مختلف مكونات الشعب التونسي من أجل بناء تونس تتسع لجميع مكونات الشعب التونسي على أرضية المواطنة، وليس الانتماء الديني أو العرقي، فإنها ستسهم في عقلنة التوجهات السياسية للعديد من قوى الإسلام السياسي كي تكون أحزابا سياسية حقيقية وليست أحزابا دينية تتخذ من السياسة غطاء لبناء الدولة الدينية.