الجريدة اليومية الأولى في البحرين


أفق


الخيال والبرامج الواقعية

تاريخ النشر : الخميس ٥ أبريل ٢٠١٢

عبدالله خليفة



اعتمدت الثوراتُ الإنسانيةُ على وحدةِ فئاتٍ متوسطة صغيرة مع العاملين، لكن أفكار هذه الفئات تخضع لمستوى العصر سواءً من حيث التطور الاقتصادي أم من حيث تطور البنية الثقافية.
في المسيحية والإسلام كان هناك ذلك الخيال الخصب بإنهاءِ عصور الظلام والاستغلال ومجيء الزمن الحر العادل المطلق، فالفئاتُ الصغيرةُ الموجودة بين كبار الأغنياء والفقراء، تصورت زوال الظلم والاستغلال، لكونها تعيش لحظات ثورية خصبة والتفاف الجمهور المتعطش للتغيير حولها.
لكن لماذا تغلبتْ الدولةُ الرومانيةُ؟ ولماذا انتصر بنو أمية؟ هذا يعود إلى طبيعة العصر الجوهرية العميقة، وربما ساهمتْ بعضُ الأخطاء والأحلام من جهة وقوة الدهاء والخبث من جهة أخرى، لكن الأسباب الموضوعية أبعد من هذه الحيثيات الظاهرة على السطوح، فكان العصر الإقطاعي قد سار فوق ضلوع القبائل والشعوب والدول، فتظهر دولة رومانية مسيحية وتظهر دولةٌ إسلاميةٌ أموية، مثلما يجري للبوذية في الصين، إنه عصر الزراعة والدول الناجحة تطور أحوال المنتجين.
ارتبطت بهذه الأحلام غيبياتُ النجوم ومجيء المخلصين الأفراد واهتم فقهاء وساسة بإصلاح الري لكن استغلال الفلاحين بشدة خرب الإمبراطوريات.
ثم جاءت الاشتراكية بأحلامها ومعارك زوال الطبقات والتحم المخلصون الغيبيون مع المخلصين الخياليين الجدد، وظهرت طبقاتٌ استغلالية جديدة وظل العمالُ والفلاحون في بؤسهم.
وغدا علماءُ الدين هم القوى الأبرز في إنتاج الأحلام والخيال أو في مداهنة القوى الاستغلالية أو معارضتها بأشكال فردية أو مغامرة،من دون أن يشكلوا خططاً عملية واقعية للخروج من هذه الشبكات المعتمة ويناضلوا لتطوير حياة العاملين بشكل ملموس.
أحلامُ المساواةِ والعدالة المطلقة ومملكةُ السماء التي يدخلها الأخيارُ هي أحلامٌ نضاليةٌ مؤقتة، ينزل بعدها الواقعُ المرير، لكن هذه الأحلام تبقى في أذهان البشر الذين يأتون لاحقاً، يريدون تحقيقها إما عبر خيالات جديدة كابوسية وإما بأشكال عملية متنامية عبر الزمن.
لحظة التوافق بين البرجوازية الصغيرة والعمال تحدث في أوروبا حين نزل أسلوبُ الإنتاج الرأسمالي بحدة على القوى الفقيرة المعوزة، وظهر عبر الاشتراكية وظهر الحلمُ الذي قارب القراءة الموضوعية بصورة أحلام المساواة والعدالة التي يمكن تحقيقها لكن الظروف الموضوعية لم تتحقق، وربما في سبيلها للتحقق في هذه الدول الغربية المتطورة أكثر فأكثر.
في الثورات الاشتراكية والدينية والقومية الشرقية التي رددت أحلام العدالة المطلقة وقامت بها الفئات نفسها، رأينا طبيعة الأنظمة وانقلاب مُثُل العدالةِ المطلقة والجنان إلى كوابيس.
إن تحقيق المثالية والتصورات الخيالية بالعدالة الكلية لعبت دوراً في التطرف وان كون المرحلة هي مرحلة رأسمالية لا يتيح مثل هذه العدالة الطوباوية، وان الثورات بدءًا من الثورة الروسية مروراً بالثورة الإيرانية إلى الثورات العربية الحالية تظل في المرحلة الرأسمالية من شمولية وعسكرة وهي حتى مفتوحة غير معروفة التوجهات، وفيها بعض من هذه الخيالات المحلقة ولم تعرف البرامج الاقتصادية الموضوعية المحددة لانتشال الفقراء من فقرهم المدقع.
إن هذا يعني نضال الطبقات العاملة من أجل المساواة السياسية والديمقراطية والتطور الاقتصادي لها، وهو تحديد لواقعها الموضوعي في ظل استثمارات واسعة خاصة وعامة مطلوبة.
ومن هنا فإن مصادر الخيالات الطوباوية والأحلام السابقة تظل ميراثاً نضالياً مقروءاً بأشكالٍ نقدية، لكنها ليست برامج عملية، فالنسبي أفضل من المطلق، وتطور حياة القوى الشعبية الحقيقي أفضل من ارتكازها على أشكال من الخداع السياسي الطبقي.
حين تدور الصراعات على الأرباح والأجور وتنمية المناطق الشعبية وعلى تحجيم البطالة ومستوى تمثيل القوى الشعبية في البرلمانات ومقاومة الفساد أفضل من الكلام عن تطبيق الشريعة بمختلف أصنافها حيث يتنازع حولها المؤمنون بها ويدخلون بلدانهم في صراعات الماضي.
بطبيعة الحال تظل هناك جماهير تعيش في الماضي، ولاتزال تردد الشعارات نفسها وتريد تحقق العدالة المطلقة، وتُؤسر ببرامج سياسية غير واقعية وتُجر لمعارك خطِرة.
البشرية يجب أن تتعاون لتتجاوز الأنظمة الكلية الشرقية ذات المرجعيات الدينية المطلقة التي تحول بعضها لدكتاتوريات عسكرية خطرة خاصة في روسيا وإيران والصين وسوريا وإسرائيل وكوريا الشمالية، وهي تمتلك أسلحة نووية كبيرة خطِرة أو في سبيلها إلى ذلك.
وكذلك تحتاج الأنظمة الحائرة المضطربة في العالم العربي كلها إلى التوجه نحو تطورات سلمية ديمقراطية بحيث لا تتفجر وتقذف بحممها على شعوبها.
نريد برامج ممكنة التنفيذ وحلولاً سريعة لمشكلات الجمهور من إدارات واعية خلاقة، وأن يتم تجاوز الشركات الفاشلة وحلها، وأن تُدرس أشكال العمالة السائبة، وأن تُطور العمالة الوطنية وتسود خلال عقود، وأن تغير طبيعة الأجور المتجمدة والأسعار المنفلتة، ويتم تجاوز عقلية الأبنية الجديدة الفارغة بإيجارتها العالية، وأن يتوقف تحكم الأحزاب الدينية واليمينية وتُعطى مساحات للقوى الديمقراطية واليسارية، وأن يظهر إعلامٌ متعدد حر حقيقي.