حادث «تولوز».. ومأزق مسلمي فرنسا
 تاريخ النشر : الجمعة ٦ أبريل ٢٠١٢
مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية
تسبب الحادث الإرهابي الذي ارتكبه الشاب «محمد مراح» الفرنسي الجنسية والجزائري الأصل بمدينة تولوز والذي راح ضحيته أربعة من اليهود (من بينهم ثلاثة أطفال) وثلاثة جنود مسلمين، في إثارة جدال واسع داخل فرنسا، حتى بات هذا الحادث هو القضية الأساسية التي تشغل بال الفرنسيين في الوقت الراهن وبسبب أهميته وخطورته غطى على العديد من القضايا الوطنية وفي مقدمتها انتخابات الرئاسة، بل ألقى بظلاله عليها.
وإذا كان هناك من يفسر الضجة المثارة حول الحادث على أساس أن مثل هذه الحوادث نادرة الحدوث في السنوات الأخيرة وأن هناك مخاوف من أن يكون بداية لحوادث أخرى يمكن أن تستهدف فرنسا، واحتمال أن تكون القاعدة أو أي تنظيمات أخرى قد نجحت في اختراق المجتمع الفرنسي، فإن الخوف الأكبر يأتي من الانعكاسات السلبية التي يمكن أن تترتب على ارتكاب هذا الحادث والتي يجىء في مقدمتها تهديد وحدة المجتمع، ولاسيما مع وجود مخاوف بين المسلمين الفرنسيين (الذين يشكلون ثاني جماعة دينية في فرنسا ويصل عددهم إلى ٣,٥ ملايين مسلم) من أن يكونوا أول المستهدفين نتيجة للحادث رغم أن بعض ضحاياه من المسلمين أيضًا.
وبطبيعة الحال فإن مخاوف المسلمين الفرنسيين تلك لها ما يبررها، وهي مخاوف متكررة تُثار بعد أي حادث عنف تتعرض له أي دولة من دول الغرب بعد أحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١؛ حيث ينظر للمجتمعات المسلمة بها على أنها مفرخة للتطرف ومؤهلة لاجتذاب الأيديولوجيات المتطرفة والتأثر بها.
ولعل مسلمي فرنسا لا ينسون الهجمات والاعتداءات العنصرية التي تعرضوا لها من جانب جماعات اليمين المتطرف، كما أنهم لا ينسون الإجراءات التي استهدفتهم من جانب الحكومة الفرنسية والتي مست حرياتهم الشخصية.. وواقعة منع ارتداء النقاب ليست آخرها.
ولم يمنع من وجود هذه المخاوف حرص الرئيس الفرنسي «نيكولا ساركوزي» على توجيه رسالة طمأنينة لهم، حين دعا الفرنسيين إلى التضامن والوحدة، وإلى التفرقة بين الإسلام والإرهاب، بل إن المشكلة هي أن الحادث أثار أجواء متوترة وحملات ملاحقة لا تتوقف، وهو الأمر الذي قد يؤدي - في حالة زيادة شحنتها عن طريق إثارة المشاعر القومية الملتهبة - إلى تحولها بسهولة إلى حملات كراهية مطلقة لكل الأجانب على اختلاف انتماءاتهم.
ونظرًا لخطورة الحادث وانعكاساته على المجتمع المسلم، فإن الأمر يتطلب إلقاء نظرة عامة على جوانبه للتعرف على أسبابه والإجراءات - المثيرة للقلق وللتساؤل أيضًا - التي أعلن عن اتخاذها الرئيس «ساركوزي» بشأنه، وما هو مطلوب لتجنب التأثيرات والانعكاسات السلبية المترتبة عليه بالنسبة إلى المسلمين.
بداية عند الحديث عن خلفيات الحادث وأسبابه، فلابد من الإشارة إلى أنه حتى عام ٢٠١١ لم يكن الجزائري محمد مراح محل شكوك من جانب أجهزة الأمن الفرنسية، رغم ملفه الأمني الذي يشي بتورطه في بعض القضايا، ورغم سابقة سفره إلى باكستان وأفغانستان خلال عامي ٢٠١٠ و٢٠١١؛ حيث تشير تحريات جهاز الاستخبارات الداخلية الذي راقب تحركاته وسفرياته إلى أنه لم يكن هناك مبرر للاعتقاد بأنه رجل خطير من الممكن أن يرتكب جريمة، وخاصة أنه لا يوجد دليل على أنه ينتمي إلى شبكة إسلامية متشددة، وهو ما يرجح أن يكون قد ارتكب جريمته من تلقاء نفسه، ومن دون الحصول على أي دعم لوجستي أو أيديولوجي من الخارج.
واللافت أن البعض أرجع ارتكاب الحادث إلى الرغبة في تصفية حسابات أو الانتقام من قوات المظلات المتمركزة في جنوب فرنسا، لأنها القوات الخاصة التي تشارك بالتدخل في أفغانستان، بيد أن مصادر أمنية فرنسية أكدت اعتراف «مراح» قبل مقتله بارتكاب هذه الجرائم انتقامًا لأطفال فلسطين الذين يسقطون ضحايا الاحتلال الإسرائيلي، علاوة على الوجود الفرنسي في أفغانستان.
وإذا كانت جهات التحقيق في فرنسا قد اهتمت بالبحث عن أسباب ارتكاب الحادث، ومحاولة التنقيب عن انتماء «مراح» الأيديولوجي للوقوف على الجهة التي يحتمل أن تكون ضالعة معه في الحادث، فإن الرئيس «ساركوزي» - الذي يخوض معركة حامية الوطيس من أجل الحصول على فترة رئاسة ثانية خلال إبريل الجاري، كان يهمه بالدرجة الأول حتي يمتص غضب الفرنسيين أن يتخذ إجراءات سريعة للتعامل مع الموقف، إذ لم تمر ساعات قليلة على مقتل «محمد مراح» حتى تم الكشف عن سلسلة من الإجراءات القانونية والجنائية التي أراد «ساركوزي» أن يمررها في أسرع وقت ممكن من أجل مكافحة محاولات نشر الأفكار والأيديولوجيات المتطرفة سواء عبر الوسائل الإلكترونية، أو من خلال الرحلات الميدانية وكذلك داخل السجون.
فمثلاً بالنسبة إلى الوسائل الإلكترونية أعلن اعتزامه مراقبة مواقع الإنترنت التي تدعو إلى بث الكراهية والعنف وتمجد الإرهاب، ليعاقب كل من يشاهدها جنائيًا، كما أعلن القيام بملاحقات جنائية لكل من يسافر إلى الخارج، ليتابع أنشطة نشر عقائد تحض على العنف والإرهاب.
وأعقب إعلان هذه الإجراءات قيام «ساركوزي» في ٢٩/٣/٢٠١٢ برفض منح أربع شخصيات إسلامية تأشيرة دخول لفرنسا لحضور مؤتمر اتحاد المنظمات الإسلامية الفرنسية، بحجة تأييدهم لجماعة الإخوان المسلمين، وقام أيضًا بإصدار أوامر بطرد شخصيتين إسلاميتين من الشخصيات البارزة والمثيرة للجدال وهما: «علي بلحاج حداد» (الذي أدانته محكمة فرنسية بالتورط في حادث إرهابي بمراكش عام ١٩٩٤)، و«علماني برادجي» (المتهم بالإدلاء بتصريحات تدعو إلى معاداة السامية، ويطالب النساء بارتداء النقاب رغم أنه محظور في فرنسا).. وبجانب هذين الشخصين أصدر كذلك أمرًا بترحيل ثلاث شخصيات أخرى منهم «مالك دارين» التونسي (لمطالبته بإعدام من يرتد عن الدين الإسلامي)، و«يوسف يوكسل» التركي (بتهمة نشر مشاعر الكراهية ضد الغرب واليهود).. ثم توجت هذه الإجراءات الإقصائية بشن الشرطة الفرنسية حملة دهم أمنية في ٣٠/٣/٢٠١٢ تم خلالها اعتقال ١٩ شخصًا من الجهاديين.
تلك الإجراءات السريعة والمتلاحقة (من عمليات الطرد والاعتقالات) لجأ إليها الرئيس «ساركوزي» ؟ وبحسب مجلة تايم ٣٠/٣/٢٠١٢ ؟ ليس بسبب تهديد الإسلام الراديكالي، بل بسبب انتخابات الرئاسة؛ حيث يحاول الرئيس استغلال التداعيات السياسية لحادث «تولوز» في وقت يسعى لسد الفجوة مع المرشح الرئاسي الاشتراكي «فرانسوا هولاند»، حيث أكد ساركوزي المأساة التي عاشتها فرنسا، وقدم نفسه بوصفه القائد القادر على حماية الأمة الفرنسية من أي أعمال عنف قد تُرتكب في المستقبل.
وفي حقيقة الأمر لم يكن «ساركوزي» في سلوكه المستغل لحادث «تولوز» مختلفًا عن منافسيه في السباق الرئاسي، الذين تنافسوا أيضًا على إرضاء الجناح اليميني المتطرف، ولاسيما أن جريمة «مراح» والمزاج العام في الانجذاب إلى القومية الفرنسية الذي تتردد أصداؤه في أروقة النظام السياسي الفرنسي ، تثير قضايا الهجرة والتعددية الثقافية وأخطار الإسلام السياسي، وهي قضايا لها جاذبيتها الخاصة عند اليمينيين المتطرفين الفرنسيين.
لقد سعى مرشحو الرئاسة الفرنسية إلى استثمار حادث «تولوز» في الاتجاه الذي يحقق لهم الكسب السياسي، وخصوصًا أن «محمد مراح» أعلن صراحة أنه «جهادي»، وهو ما يعطي نكهة خاصة لجريمته، ومحاولة ربطها بالإسلام، كما أسهمت الجريمة بعد مقتل ثلاثة أطفال يهود يدرسون في مدرسة يهودية في تحريك آلة الدعاية الإسرائيلية لإثارة قضية حماية اليهود.. وربما لم تكن تلك الجريمة لتأخذ هذا الصدى الواسع في فرنسا وخارجها، لو لم تتزامن مع حملة انتخابات الرئاسة الفرنسية، ولو لم يستهدف «مراح» مدرسة يهودية، رغم أنه استهدف أيضًا عسكريين فرنسيين مسلمين ومن ذوي أصول أجنبية.
وبطبيعة الحال، فإنه بسبب أجندة فرنسا القومية والخوف من التطرف الإسلامي، ستحمل ردود الفعل السياسية آثارًا منذرة بالسوء على المجتمع المسلم في فرنسا، مع تصاعد اللهجة الشديدة لحزب الجبهة الوطنية؛ حيث أشارت زعيمته «مارين لوبان» إلى أن كل أطفال فرنسا بحاجة إلى الحماية من متطرفين مثل «مراح».. وما يدعو إلى القلق من هذا الخطاب هو مستويات التأييد التي يحظى بها حزب الجبهة الوطنية، وتحول «ساركوزي» نفسه وبشكل متزايد نحو اليمين.
ويزيد من عمق المشكلة ذلك التصور الخاطئ من جانب القيادة الفرنسية لمشكلات المسلمين بداية من النقاب والذبح المطابق للشريعة الإسلامية والصلاة في الشوارع، كما أن المسلمين العاديين لا ينظر إليهم فقط على أنهم غير اجتماعيين أوغير مرغوب فيهم، بل ينظر إليهم أيضًا على أنهم على علاقة بالإرهاب الدولي.
ولقد شعر القادة المسلمون الفرنسيون بطبيعة الخطر الذي تواجهه الأقلية المسلمة، فشجبوا المحاولات الرامية لاستغلال حادث «تولوز» سياسيًا؛ حيث طالب «محمد موسوي» رئيس المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية في بيان أصدره بعد فترة وجيزة من مقتل «مراح» بالامتناع عن استخدام مصطلح «الإسلاموية»؛ لأنه يغذي الخلط بين الإسلام والإرهاب، ويتسبب في معاناة الملايين من المسلمين الذين يشعرون بأنه من الضروري الدفاع عن كرامة عقيدتهم ودينهم.
ويرى «أدريان هاميلتون» في تعليق له بالإندبندنت يوم ٢٣/٣/٢٠١٢ أن حادث «تولوز» يجب أن يوضع في حجمه الحقيقي من دون المبالغة في اتخاذ الإجراءات، فالحادث لم يكن سوى حادث فردي ارتكبه رجل واحد، وما أكثر ما وقع من هذه الحوادث على مر التاريخ، وفي الدول التي تتميز بوجود أفضل الأجهزة الشرطية والدفاعية،ومن دون أن يكون للتشريعات الصارمة أي دور في هذا الصدد.
ومن الواضح بعد استعراض طريقة تعامل السلطات الفرنسية مع الحادث أن هناك تركيزًا لافتًا على الإجراءات الأمنية والإقصائية، ومثل هذه الإجراءات وحدها - ومن واقع تجارب بعض الدول - لا تصلح وحدها لعلاج المشكلة، بل إن من شأنها تفريخ الكثيرين من عينة مرتكب حادث «تولوز»، وعلى هذا فإن مقتضيات التعامل الجيد مع مشكلة التطرف والأزمة التي يعيشها المسلمون في فرنسا في الوقت الحالي تتطلبان طرقًا مختلفة في المعالجة قد يكون من بينها ما يلي:
١- على صانع القرار في فرنسا الحد فورًا من تأجيج مستويات الخوف والقلق والعداوة تجاه المسلمين والدين الإسلامي داخل المجتمع الفرنسي، وخاصة أن تأجيج هذه المشاعر أمر لا معنى له؛ حيث إن الدعوة إلى تهميش المجتمع المسلم على أساس العنصرية الصريحة، بالإضافة إلى المسار التصادمي الذي تحرص النخب السياسية الفرنسية على اتباعه سيأتيان -وكما ذُكر آنفًا - بنتائج عكسية على المصالح الأمنية الفرنسية على المديين المتوسط والطويل على حد سواء.
٢- هناك حاجة لمراعاة الخلفيات الدينية والثقافية للجالية الإسلامية في فرنسا، حيث إنه تحت شعار علمانية الدولة يتم الحجر على الكثير من الممارسات والتقاليد الإسلامية كمنع ارتداء الحجاب والنقاب بحجة مخالفتهما للطابع العلماني للدولة، ومثل هذه الممارسات تستفز العناصر والتنظيمات الإسلامية الأصولية، وتجعلها تتخذ موقفًا عدائيًا من فرنسا بحجة استهدافها للمسلمين وانتهاج سياسات عنصرية ضدهم.
٣- هناك حاجة إلى تنظيم عملية الهجرة إلى فرنسا، ووضع حد للهجرة غير المشروعة، وخصوصًا من بلدان المغرب العربي، لأن ذلك يسمح بتسلل عناصر التطرف والإرهاب إلى فرنسا، ومثل هذا التنظيم يتم بالتعاون بين فرنسا والدول الأوروبية على المستوى الجماعي، وأيضًا بالتعاون مع الدول التي تعد مصدرًا لهذه الهجرة.
٤- من الضروري العمل على إدماج أعضاء الجالية الإسلامية في المجتمع الفرنسي من خلال سياسات وبرامج تراعي خصوصياتهم الاجتماعية والثقافية، وتعمل على مواجهة مشكلات البطالة والتهميش التي يعانون منها، فضلاً على التصدي للتوجهات اليمينية العنصرية ضد المسلمين التي تقودها الأحزاب اليمينية المتطرفة، والتي تسعى لاستغلال الحوادث مثل حادثة «مراح» في الإساءة للمسلمين والأجانب عمومًا، وتأجيج المشاعر ضدهم لطردهم من فرنسا.
والمثير في قضية «مراح» والإجراءات الإقصائية التي اتخذتها الحكومة الفرنسية بحق من تعتبرهم مسلمين متطرفين، أنها بدأت تنعكس على مجتمعات أوروبية أخرى؛ حيث تطالب بعض الأقلام في الصحف البريطانية بطرد الشخصيات المتطرفة من بريطانيا.. وتتساءل كيف لا تفعل حكومة «دافيد كاميرون» مثلما فعلت حكومة «ساركوزي»؟ وهو ما يعني أن المسلمين في أوروبا ربما يتأثرون بتداعيات ما يجري في فرنسا في الوقت الراهن.
.