الجريدة اليومية الأولى في البحرين


قضايا و آراء


المالكي والسفير الجديد ماكجورك دبابتان أمريكيتان في بغداد

تاريخ النشر : الجمعة ٦ أبريل ٢٠١٢



عندما ترشح الادارة الأمريكية واحدا من ضمن ما يطلق عليهم في واشنطن بـ (شباب المحافظين الجدد) وهم مجموعة من الباحثين السياسيين والدبلوماسيين وضباط المخابرات تتراوح اعمارهم بين الثلاثين والخمسين عملوا في وظائف سكرتارية ومساعدة وحمل الحقائب وتدوين محاضر اجتماعات رؤسائهم ويتولون مهمات سرية قذرة بعيدا عن الانظار، سفيرا جديدا في بغداد
هو بريت ما كجورك، فان ذلك يعني ان المحافظين الجدد او كما يسمون في المفاهيم السياسية اللوبي الصهيوني او اليمين المتصهين مازالوا يمارسون أدوارا وينفذون مهمات وفق اجنداتهم السرية والعلنية ويحكمون ويتحكمون في مسار السياسات الامريكية في العالم وخصوصا في منطقتي الشرق الاوسط والخليج العربي تحديدا، وليس صحيحا ما روجته أوساط الحزب الديمقراطي الامريكي عندما نجحت في ايصال صاحب البشرة السمراء والافريقي الاصل والمسلم السابق باراك حسين اوباما إلى القصر الابيض ان نفوذهم قد تبدد وانتهى وان أمريكا تخلصت من سطوة قيادتهم الرباعية) ديك تشيني ودونالد رامسفيلد وبول وولفويتز وريتشارد بيرل وعصابتهم التي ورطت بوش الابن في شن الحرب على افغانستان والعراق.
فالمحافظون الجدد ليسوا حزبا يخوض انتخابات تشريعية او رئاسية ينجح فيها او يفشل ثم يبدأ من جديد، وليسوا أصحاب مبادىء ومفاهيم سياسية محددة يسعون إلى تطبيقها بهدوء بعيدا عن صخب المدافع وهديرالطائرات، وهم ايضا ليسوا تيارا سياسيا له مواصفات معروفة في العمل والتنظيم والانتشار، وانما هم غول سياسي وعسكري واقتصادي يتفوق في قوته الضاربة على الحزبين الرئيسيين (الجمهوري والديمقراطي) والمؤسسة العسكرية والمخابرات المركزية والشركات التجارية الكبرى (الكارتلات) رغم انهم يطرحون انفسهم بدعاة المشروع الامبراطوري الامريكي تارة وبناة القرن الامريكي الجديد الذي بدأ عام 2000 تارة اخرى. وسواء كان ترشيح السفير الجديد ماكجورك في العراق بتأثير مباشر من المحافظين الجدد او بالواسطة التي لها رواج كبير في الاروقة الامريكية على خلاف ما يشاع عن المجتمعات الديمقراطية وحقوق الانسان ودعوات وضع الشخص المناسب في المكان المناسب التي جاءت بممثل سينما مغمور (رونالد ريجان) ونصبته رئيسا لاقوى دولة في العالم ودفعت شابا نزقا اسمه جورج دبليو بوش وألحقته بالمكتب البيضاوي في انتخابات شابتها الشكوك ولم تنفع احتجاجات منافسه آل جور الذي صمت بعدها وانصرف عن العمل السياسي والامثلة كثيرة، الا انه من المؤكد ان هذا (السكرتير) سابقا والمستشار لاحقا هو من نتاج المحافظين الجدد، ومحسوب على ريتشارد بيرل رئيس مجلس سياسات الدفاع القومي السابق الذي كانت تصفه الصحافة الامريكية بـ(امير الظلام) والوصف لا يحتاج إلى تفسير، وهو قدم استقالته من منصبه الرسمي اثر فضيحة مدوية كشفها الصحفي الامريكي البارز سيمور هيرش في مجلة (نيويوركر) بالارقام والوقائع توضح بان مهندس الحرب على العراق تلقى رشوة تبلغ سبعمائة وخمسين الف دولار من شبكة لتهريب السلاح عام 2001 مستغلا وظيفته والقصة معروفة، غير ان بيرل الذي غادر وظيفته الحكومية في وزارة الدفاع في منتصف عام 2003 ظل محتفظا بموقعه المرموق في (مركز دراسات المشروع الامريكي) وهو مركز لتقديم الدراسات والابحاث والاستشارات انشأه المحافظون الجدد اواسط التسعينيات وانتعش عقب انتخاب الرئيس بوش الابن ونشط كثيرا عقب احداث 11 سبتمبر 2001 والفترة التي سبقت الحرب على العراق ومعروف عنه انه يتعامل مع البيت الابيض والبنتاجون ووزارة الخارجية ومستشارية الامن القومي ووكالة المخابرات المركزية (سي آي ايه) وكبار رجال الصناعة والنفط وصناع القرار الامريكي. والمعلومات عن المرشح الجديد لشغل السفارة الامريكية في بغداد بريت ماكجورك أنه عمل في هذا المركز اكثر من عامين قبل ان يرافق السفير بول برايمر كمساعد له عند تعيين الاخير رئيسا لسلطة الائتلاف الامريكي كما سميت في مايو
2003، واستمر يعمل مع السفراء الامريكيين المتعاقبين كمستشار حتى اليوم مع فترات انقطاع قصيرة كان يقضيها في واشنطن قريبا من مركز الدراسات ولصيقا بمسؤوله السابق بيرل.
وهذا المركز له دراسة خطيرة كان قد قدمها إلى ادارة الرئيس بوش الابن بعد احداث سبتمبر 2001 دعا فيها إلى التخلص من صدام حسين وتقويض الدولة العراقية والقضاء على البقية الباقية من بناها التحتية التي سلمت من الحصار وهجمات الطيران الامريكي، ولعل أسوأ ما في الدراسة كما تبين لاحقا ونشر بعض منها، انها نصحت الرئيس بوش الابن وادارته بالتعاون مع الشيعة والاكراد عند نجاحها في إحداث (التغيير) في العراق واستبعاد وتهميش السنة العرب، وكانت حجة الدراسة التي استندت في تحليلها واستنتاجها هذا، ان الشيعة يعارضون الحكام السنة في العراق منذ اكثر من ألف عام من دون ان يحققوا شيئا ملموسا، فهم مهزومون دائما ويخافون من (الاقلية السنية) الحاكمة وينتظرون الخلاص وفق عقائدهم على يد أحد أئمتهم الدينيين السابقين الذي تدور حوله أساطيرمتضاربة وقصص شائكة (المهدي المنتظر) لذلك فهم على استعداد للتعامل مع الامريكيين كمنقذين لهم بعد ان طال انتظارهم، وتؤكد الدراسة ان التفاهم مع الطرف الشيعي (الضعيف) الذي يشعر بالغبن
والمظلومية على مدى قرون له نتائج طيبة مع الامريكيين الذين سينظر اليهم كمحررين من التسلط السني، والاستراتيجية الامريكية على الدوام تتعاطى مع اطراف وحركات ضعيفة لا تملك ان تقول (لا) او تعارض او تعترض على اصحاب الفضل عليها، والامر نفسه ينطبق على الاكراد الذين وصفتهم الدراسة بانهم كثيرا ما تمردوا وثاروا على الحكم السني على طول ثمانين عاما ولكنهم في النتيجة يخسرون ويهزمون ويظلون على ضعفهم.
أما (الاقلية) السنية العربية كما تصفها دراسة او نصيحة مركز دراسات القرن الامريكي فان التعاون معها محفوف بالمخاطر لان السنة العرب يمتلكون القوة العسكرية والخبرة في الادارة والحكم والامتداد السني الذي يوفره المحيط العربي والعالم الاسلامي، وهذه الصفات الثلاث لا تنسجم او تتوافق مع مشروع القرن الامريكي الذي يقوم على حكم العالم في القرن الحادي والعشرين كله، ومن تابع الخطوات الامريكية في احتلال العراق اولا فاول لا
يجد عناء في فهم الاجراءات والسياسات التي رافقت الاحتلال وجميعها تؤشر حالة امريكية في التطابق مع مضامين تلك الدراسة وما حملته من افكار وتوجهات واقتراحات ابتداء من تشكيل مجلس الحكم الانتقالي وفيه احتل الشيعة اكثر من نصف اعضائه بمن فيهم رئيس الحزب الشيوعي (13 عضوا من اصل
25 عضوا) وتساوى الاكراد مع السنة العرب (خمسة اعضاء لكل من الطرفين) وترك المقعدان المتبقيان لمسيحي وأخر تركماني شغلته سيدة في حينه.
و.اذا كان الاعضاء الشيعة والاكراد في ذلك المجلس لهم سمات سياسية معروفة باعتبارهم قادة لاحزاب ومليشيات ابدوا تعاونا مع الاحتلال من لحظته الاولى، فان الاعضاء السنة الخمسة في المجلس جُمعوا على عجل ولم تعلن اسماؤهم الا بعد ان استحصل بول برايمر على موافقة القطبين الشيعيين عبدالعزيز الحكيم وابراهيم الجعفري عليهم، وقيل في حينه ان اثنين من مستشاري برايمرأحدهم بريت ماكجورك نفسه والاخر روبرت فورد الذي عين سفيرا في سوريا فيما بعد، قد نسجا علاقات متينة مع مراجع الشيعة في النجف والكاظمية بواسطة عماد الخرسان وموفق ربيعي، واقاما صلات وثيقة مع قادة الاحزاب الشيعية وان ماكجورك له آراء متطرفة ضد السنة العرب في العراق ويتفق مع حزب الدعوة في ان كل سني عربي بالعراق هو (ارهابي) عموما وصدامي دائما.
وينسب إلى ماكجورك ايضا انه بعث برسالة سرية وخاصة إلى الرئيس بوش الابن منتصف عام 2004 نصحه فيها بانهاء خدمات السفير الامريكي يومذاك نيجروبونتي الذي ارسل إلى العراق لمواجهة المقاومة الوطنية او (التمرد السني) كما اصطلح على تسميته امريكيا، لان ماكجورك وكان مساعدا في مكتب نيجروبونتي سمع الاخير في اجتماع عقد في مبنى السفارة بالمنطقة الخضراء ببغداد وهو يتأفف من مهمته الصعبة قائلا: انه من المستحيل القضاء على التمرد السني لان السنة العرب يرتبطون مع الشيعة برابطة قومية ومع الاكراد برابطة مذهبية فكيف يتسنى لنا النجاح والاجهاز عليهم؟ وهذا الرأي او القول في نظر ماكجورك يمثل تراجعا ونكوصا من السفير المتخصص في مكافحة حركات التحرر الوطني في أمريكا اللاتينية والذي انتدب للمهمة ذاتها في العراق.
وسواء صحت هذه الرواية أم لا، الا ان الثابت عن هذا المستشار الامريكي انه كان يحرض السفراء والجنرالات الامريكيين دائما على ضرب المناطق والمحافظات السنية العربية وينقل عنه انه وقف ضد الجنرال كيسي بسبب عطفه على غازي الياورعندما كان رئيسا للجمهورية، وكان لا يرتاح اليه لان غازي في رأيه (سني وهابي) نظرا لاقامته الطويلة في السعودية، وثمة معلومات مؤكدة تفيد بان ماكجورك نفسه عمل على افشال مؤتمر المصالحة في القاهرة نهاية عام 2005 الذي عقد بمبادرة من الجامعة العربية وامينها العام السابق عمرو موسى وكان يتابع جلساته ضمن فريق امريكي جاء إلى العاصمة المصرية لهذا الغرض، ويعتقد ان ماكجورك وضع عينه في هذا الوقت على ممثل حزب الدعوة إلى المؤتمر جواد المالكي (نوري المالكي لاحقا) بعد ان اعجبته طروحاته المتشنجة ضد السنة العرب والمقاومة العراقية وهيئة علماء المسلمين ورئيسها الشيخ حارث الضاري، ومنذ ذلك الحين بدأ يدفع بالمالكي إلى الامام ويقدمه إلى رؤسائه في واشنطن بانه الرجل الموثوق والصديق الوفي لامريكا. وهناك معلومة اخرى تؤكد كراهية ماكجورك للسنة العرب نقلت عن ضابط عسكري عمل في مكتب مستشار الامن الوطني السابق موفق ربيعي مفادها، ان ماكجورك الذي كان ضمن وفد الرئيس الامريكي بوش الابن في آخر زيارة له لبغداد التي ضرب بها بالحذاء، ظل يسأل ويلح على موفق ربيعي هل ان منتظر الزيدي صاحب الحذاء الشهير سني؟ وبعد ساعة واحدة من الحادث عرف ان منتظر شيعي عربي، وعندها اصيب ماكجورك بالخيبة وبان الحزن على وجهه.
ووفق مصادر مقربة من القائمة العراقية فان ماكجورك لعب دورا (خبيثا) لصالح نوري المالكي خلال مفاوضات القائمة مع ائتلاف دولة القانون في الفترة التي اعقبت انتخابات آذار 2010 لتشكيل الحكومة الحالية ودخل في سجال وجدل عن أهلية المالكي لتأليف ورئاسة الحكومة الجديدة، حتى ان عضوا في وفد القائمة المفاوض التقى به في فندق الرشيد ايام المفاوضات وسأله مازحا: منذ متى يا مستر ماكجورك انتميت إلى حزب الدعوة ؟ فرد عليه المستشار الامريكي ضاحكا منذ عرفت المستر نوري المالكي!
وواضح ان ترشيح بريت ماكجورك وهو بهذه المواصفات والخلفية والمواقف ليس حاجة امريكية لاستمرار الاحتلال السياسي والدبلوماسي الامريكي للعراق فقط، وانما يمثل ايضا حالة داعمة وساندة للمالكي الذي بات يطرح نفسه على انه الزعيم السياسي الاوحد للشيعة في العراق، وبالتأكيد فان تمترس دبابتين امريكيتين متراصتين وفي نسق واحد وتضربان في اتجاه واحد له نتائج ايجابية في تعزيزالتفاهم الامريكي الشيعي حاليا والتعاون الامريكي الايراني مستقبلا، فوجود ثنائي امريكي في بغداد، واحد رئيس وزراء وقائد عام للقوات المسلحة والثاني مندوب سام بدرجة سفير مسلح بالسلطات والصلاحيات هو جزء مكمل للمشروع الامريكي في تهميش السنة العرب ليس في العراق فحسب، بل في المنطقة العربية برمتها ولاحظوا الموقف الامريكي من الاحداث في سوريا الذي يشي بان واشنطن لا تريد للعلويين الشيعة ان يتركوا السلطة ما دام البديل الحتمي لهم نظام سياسي سني باي شكل من الاشكال.
* كاتب وسياسي عراقي