بريد القراء
شأن وحدة الكلمة
تاريخ النشر : الجمعة ٦ أبريل ٢٠١٢
من استقرأ الشريعة الربانية في باب وحدة الكلمة واجتماع القلوب, والتحذير من اختلافها وتفرقها, تبين له مقدار ما أولته من عناية بالغة لهذا الجانب الذي به تقوى الأمة ويتحقق عزها, ويدوم أمنها واستقرارها, ولا ينال الأعداء بغيتهم منها, ولا شيء أكثر إخلالا بالأمن ولا ضررا على الاستقرار من اختلاف الكلمة وافتراق القلوب, وما نيل من أمة في الغالب إلا به.
وقد اشتدت عناية النبي صلى الله عليه وسلم ببناء المجتمع المسلم من داخله بناء محكما قويا على الألفة ووحدة الكلمة واجتماع القلوب, وكان من أوليّات عمله صلى الله عليه وسلم حين وطئت قدمه المدينة المؤاخاة بين أصحابه رضي الله عنهم, تلك المؤاخاة التي لم يشهد التاريخ لها نظيرا حين نقلت أصحابه رضي الله عنهم من التباغض في الجاهلية إلى التحابب في الإسلام, وجعلت غرباء الدار إخوة للأنصار. وكان من سياسة النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه رضي الله عنهم أنه يقضي على أي بادرة اختلاف بينهم في مهدها, ويطفئ فتيلها قبل اشتعالها, ولا يتهاون في ذلك أبداً, بل نجده صلى الله عليه وسلم الرفيق الرحيم يغلظ المقال في هذا المقام أكثر من غيره, لعلمه صلى الله عليه وسلم أن نار الخلاف والفرقة والفتنة إذا توقدت فمن العسير إطفاؤها.
إن من أجل مقاصد الشريعة وأبينها في الأحكام المفصلة: تحقيق وحدة الكلمة وائتلاف القلوب, ويكاد أن ينتظم ذلك في كل أبواب الشريعة في العبادات والمعاملات والآداب, بل حتى في العقوبات. ففي الصلاة لا يخفى فضل صلاة الجماعة, ومن مقاصدها اللقاء في المسجد كل يوم خمس مرات, ويتوج ذلك بتراص الصفوف حتى تلتصق الأقدام والمناكب: «لتسوّن صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم», فهذا مقصد لوحدة الكلمة ظاهر متكرر, وأعظم منه اجتماع الجمعة: وأعظم منها الاجتماع في العيد. وأما الزكاة فهي من الأغنياء للفقراء, لإزالة ما في قلوبهم من الانكسار, والحيلولة بينها وبين الأحقاد, حفظا لوحدة الكلمة واجتماع الشمل.
وفي الصيام يجوع الغني ليفطن لجوع الفقير فيطعمه, فيتطهر قلبه من الضغينة على أخيه المُوسر. وفي الحج تلتقي أجناس شتى لا يجمعها شيء سوى الوحدة على كلمة التوحيد.
وفي أبواب معاملة الناس بعضهم مع بعض قُضي في الشريعة على كل ما يكون سببا لتصديع الوحدة وافتراق الكلمة من الربا والرشوة والغِش في المعاملات, ونهي عن سوء الأخلاق وفحش الكلام والإساءة إلى الناس, ولا يحِل أن يبيع الرجل على بيع أخيه, ولا يخطب على خطبته, لئلا يوغر قلبه, ويفسد وده, فتفترق كلمتهما, وأمر بكل ما يؤدي إلى المحبة والألفة من السماحة والعفو والبشاشة وطيب الكلام وبذل السلام والإحسان إلى الغير. وفي القِصاص في النفس فما دونها ترسيخ لوحدة الكلمة, والقضاء على بذور الشقاق, لأن القِصاص وإن كان فيه اتلاف لنفوسٍ أو أعضاء ففيه شفاء للقلوب, واستحياء للنفوس المعصومة «ولكم في القصاص حياة» (البقرة: 179).
وفي الحدود قضاء على البغي والعدوان, وصيانة للدماء والأعراض والأموال, لأنه إذا اعتدي على شيء من ذلك فلم يعاقب المعتدي تصدعت وحدة المجتمع واختلفت كلمته, وكان أخذ الحقوق بالأيدي لا بالشرع فتكون الفوضى, ولذا غلَّظ النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن الشفاعة في الحدود.
لا شيء أعظم خطرا على وحدة الكلمة فيؤدي إلى تصدعها من افتراق الدين, فإن التخلي عن الدين بالكلية أو عن شيء منه لِهوى في النفوس هو السبب الرئيس لزوال الوحدة وحدوث الفرقة, وأمة العرب في جاهليتها كانت أمة مستباحة مستضامة بسبب فرقتها, فلما جمعها الله تعالى بالإسلام ووحد كلمتها سادت أمم الأرض, وحكمت الناس قرونا كثيرة.
إن من تأمل آيات الذكر الحكيم في الحث على الوحدة والنهي عن الفرقة يجدها تؤكد التزام الدين لتحقيق هذه الوحدة في كل آية عالجت هذا الموضوع المهم, فأمرت بالتمسك بحبل الله تعالى الذي هو دينه أو كتابه أو عهده, ونهت عن الفرقة, مما يدل على أن عدم التمسك بالدين سبب للفرقة. قال تعالى: «واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا». ووصية الله تعالى لنا ولمن قبلنا كانت: «أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه» (الشورى: 13). فإقامة الدين سبب للوحدة كما أن تفرق الدين سبب للفرقة, ولذا برأ الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم ممن فرقوا دينهم فاختلفت كلمتهم, فصاروا فرقا متناثرة وأحزابا متناحرة.
ولأهمية وحدة الكلمة يذكرنا ربنا سبحانه بحال بني إسرائيل الذين فرقوا دينهم, ففقدوا بسببه التفضيل على العالمين, وجرت بين طوائفهم المتفرقة في دينها حروب طاحنة أفنت بشرا كثيرا, «وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة», فنهانا ربنا عز وجل أن نسلك مسلكهم في افتراق الدين, لئلا تتصدع وحدتنا وتختلف كلمتنا: «ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات» (آل عمران: 105).
وأرشد النبي صلى الله عليه وسلم عند اختلاف الناس وانتشار الفرقة فيهم إلى لزوم سنته والتمسك بها للسلامة من الزلل والوقاية من الفتنة, فقال صلى الله عليه وسلم: «من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيراً, فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين, عضوا عليها بالنواجذ, وإياكم والمحدثات فإن كل محدثة بدعة».
كل هذه القواعد الربانية والإرشادات النبوية هي لأجل المحافظة على الوحدة والقضاء على الفرقة.
وإذا علم شأن وحدة الكلمة في الشريعة والنهي عن الفرقة فإن كياسة العقل وكمال الفهم ألا ينساق المرء إلى من يريد تصديع هذه الوحدة, لما يراه ظلما قد وقع عليه, أو حقا لم يؤد إليه, لأنه إن فقد بعض حقه حال الوحدة فسيفقده كله إذا وقعت الفرقة, ولن يأمن على نفسه ولا عرضه ولا ماله.
فوحدة الكلمة سبب كل خير, كما ان افتراقها سبب كل شر, ولاسيما مع كثرة المتربصين وتسارع الأحداث وتوتر الأوضاع الإقليمية والدولية واتساع الهرج في البشر. أسأل الله العلي أن يحفظ علينا أُخوّتنا ووحدتنا وأن يؤلف بين قلوبنا.
نسأل الله تعالى أن يجمع قلوبنا على الحق, وأن يوحد كلمتنا على أعدائنا, وأن يبعد أسباب الشقاق والافتراق عنا وعن إخواننا المسلمين, إنه سميع مجيب.
عبدالله القلاف