الجريدة اليومية الأولى في البحرين


أفق


فصيلٌ جديدٌ لا يعترفُ بالحداثة وقوانينها

تاريخ النشر : الأحد ٨ أبريل ٢٠١٢

عبدالله خليفة



فيما تمثل الانظمةُ العربيةُ التقليدية هيمنةَ البيروقراطيات، فإن القوى الدينية تمثل هيمنةَ النصوصِ والعلاقاتِ الاجتماعية، أي الهيمنة على الجماهير الشعبية البسيطة التي أغلبها أمي، وتأبيد العلاقات الاجتماعية المحافظة التي تعيشها.
يبدو هذا فيما تقولهُ القوى الدينيةُ السياسية عبر مصطلح المدنية، رافضةً من خلاله مصطلحَ العَلمانية الواضح القاطع.
مصطلحُ المدنيةِ يتيحُ لها استغلالَ العقائد الدينية في تشكيل الأحزاب وفي الدعاية السياسية وفي الوصول إلى السلطات.
هي تدرك مناورتها ورغبتها في الهيمنة على الحكم، ولهذا تقول (مدنية) سامحةً لنفسِها باستغلال الأديان المعترف بها لدى الجميع بشكل استثماري خاص بها، ومن أجل الحفاظ على العلاقات المحافظة في حياة الناس واستغلالها وإبقائها. هنا ستكون الشموليات مرتكزة على المحافظة الاجتماعية أساساً وستُضافُ إليها الهيمنة على الأجهزة الحكومية فتكون أكبر شموليةً من السابقين.
الأديانُ ميراثٌ عبادي حتمي للسكان، وليس اختيارات سياسية وفكرية، فالمسلم من عائلة مسلمة يظهر مسلماً بالضرورة، والمسيحي يظهر مسيحياً بالضرورة.
إن المؤمن وغير المؤمن يشتركان هنا في مشتركات الدين من أشكال العادات الاجتماعية الجوهرية كأشكالِ الزواج أو الختان بالنسبة إلى المسلمين، أو الجنازة والدفن وأشكال البيع والشراء وغيرها.
تختلف الأشكال العبادية والمشاركة أو عدم المشاركة في العبادات، لكن هذه المشاركة لا تتيح شيئاً سياسياً مختلفاً. فهي لا تدخل في السياسة ونضالاتها وأهدافها من داخل مبناها الأصيل.
فالمحافظ والتقدمي يشتركان في صلاة واحدة، والحاكم الجائر والمواطن المُعذَّب يشتركان في صلاة واحدة.
إن الأشكال العبادية الجوهرية ليس فيها علاقة صميمة بالسياسة، وهذا ما حيّر المسلمين في العصر الأول بعد الخلافة الراشدة، حيث تحيروا كيف يصنفون مرتكبَ الكبيرة، وما حكم الحاكم الظالم هل هو كافر؟
عدم فصلهم بين هذه الأسئلة والأجوبة وبين السياسة، جعلهم يعمقون خلافاتهم الدينية داخل السياسة، بدلاً من أن يكتشفوا أن خلافاتهم اجتماعية وليست دينية، فالحاكم الظالم هو مؤمن لكنه سيئ الإدارة.
لكن عمليات الإدخال القسرية لوعيهم الديني داخل أشكال الصراعات الاجتماعية جعلتهم ينقسمون إلى مذاهب كثيرة جداً. وهذا ما أتاح للحاكم الظالم المُنتَقَد أن يبقى طويلاً.
وقد بدأ الإحساسُ مؤخراً بهذه الضرورة، وظهر ذلك على شكل القول بالدولة (المدنية).
هنا نجد أن الجماعات الدينية في مأزقٍ تاريخي، هو بسبب التطور الاقتصادي الاجتماعي المحدود في العالم الإسلامي والمنعكس على وعي الشعوب.
فهي تريد أن تستثمر فرصتها في الحكم لكنها في ذات الوقت جماعات دينية مفككة للدول، ففي سوريا هناك العديد من المذاهب الإسلامية الكبيرة وعدة أديان مختلفة وعدة قوميات، وهي تعبر تمثل جماعة دينية، مغايرة لجماعات دينية أخرى، فلابد أن تحمل هذا المضمون لطبيعة السلطة من الوزراء والمسئولين الذين سوف تختارهم من بين صفوفها بشكل كبير، وهم الذين سوف يجلسون في وزارات الدفاع والداخلية والخارجية والاقتصاد والتعليم، ويديرون البلد من خلالها.
ولن يقوم الحزب الديني السياسي بطبيعة تركيبه إذا كان سنياً بإدخال المسيحيين في الأجهزة الحكومية بقوة، وإذا فعلَ فسوف يجعلُ وجودَهم رمزياً فحسب. وبالتالي فسوف تتكرس طبقية شمولية من داخل سيطرة طائفةِ تعيد إنتاج الاستبداد السابق وتقوي مراكزها في الأمن والدفاع والمخابرات وتتابع ما يقوم به المعارضون ضدها، وتعود القصة السابقة.
وهذا ما فعله الأمويون حين كرسوا سيطرة طائفة واحدة وجاء العباسيون وعمقوا سيطرتها، وتفكك المسلمون في كلِ اتجاه!
دولة مدنية طائفية هي ما يقوله هؤلاء السادة مدبجو البرامج الخيالية المؤدلجة طبقياً لحزب (الانبعاث) الإسلامي، ذي العقلية الناسخة في إعادة إنتاج الشموليات.
وليس لدى المذهبيين السياسيين من كل الطوائف بل الأديان الأخرى كذلك شيء مميزً حاسم يجعل من تطبيق هذا المذهب أو ذاك ثورة اجتماعية تنزل المن والعسل على المؤمنين الجائعين.
ليس في الكلام المذهبي السياسي والديني عامة شيء سحري يجعل المشكلات المثقل بها السكان من بطالةٍ وفقرٍ وجوع أن تتبخر وكأنها لم تكن.
ما يحتاج إليه السكان قوى ذات عقليات سياسية عميقة في فهم المشكلات الشعبية والإخلاص في حلها.
وهذا الإصرار على الحدة المذهبية ليس سوى استثمار للتعصب في الجمهور العادي، من أجل السلطات.
إن الأحزاب الدينية وقد حصرت نفسها في الوعي الديني المحافظ فمثلت طوائف تصعب عليها ممارسة الديمقراطية والحكم، فهي سوف تشق الطبقات المدنية، فإذا كانت قيادتها تنتمي إلى رأسمالية علوية فإن المشروعات والوظائف ستتوجه إلى هؤلاء، مثلما فعلت الأنظمة السابقة. وهذا يؤدي إلى صراعها مع بقية الأقسام في الطبقة نفسها، بدلاً من تشكل تحالفً بينها يقود مشروعات وطنية نظيفة مطورة للبلد، إضافة لصراعات مع القوى السكانية الأخرى.
فكيف سيكون الحكم المدني الطائفي هذا؟
ولهذا نرى خلافات مصرية حادة على كتابة دستور لم تُكتب مادة واحدة بعد منه، فيما تجاوزت المرونة التونسية المادة الأولى من الدستور بالقبول بها كما كانت في العهد العَلماني البورقيبي السابق!
إذاً الأحزاب الدينية تقود جماعاتها وطوائفها والبلدان التي سوف تحكمها إلى مشكلات خطِرة، والأجدى العودة إلى قوانين الحداثة الأساسية: (الديمقراطية وهي التداول السلمي للسلطة، والعَلمانية وهي فصل الدين عن السياسة، والعقلانية وهي حرية الوعي والبحث والفكر). وبهذا تتكون التجارب الديمقراطية العربية الجدية الواعدة على أسسٍ موضوعية، أما العودة إلى الوراء والبدء من التاريخ الأموي فهو كارثة. فلا يوجد كتالوج خاص للتطور لإحدى الديانات مختلف عن البشرية غير هذا الطريق الذي قطعتهُ الأممُ الأخرى وعليهم أن يبدأوا بشكل صحيح وإلا كانت الكوارث وتمزيق ما بقي من هذه البلدان.