قضايا و آراء
هــل يصلح رواد الإدارة ما أفســـد الدهـــر؟ (1-2)
تاريخ النشر : الاثنين ٩ أبريل ٢٠١٢
يموج مناخ الإدارة المثقل بالمشاكل بكثير من أساليب العلاج فيبدو أن هناك دواء ناجعا لكل معضلة إدارية تخطر على البال. هناك حلول توصف للمشاكل السلوكية وأخرى لعلاج مشاكل إعادة الهيكلة وأدوية سحرية للقضاء على الاستراتيجيات التي وصمت بالفشل. المجال رحب وممتد إلا أن معظم الأدوية التي تطرح للعلاج تنتمي إلى أفكار (رواد الإدارة) الذين ينتمون إلى قرن مضى، والعجيب أنه يوصى بتعاطيها لحل آلام مشاكل ملحة ومتاعب متزايدة نعانيها اليوم. لقد تجاوز العصر تلك المدارس العتيقة التي بدأ يخبو بريقها وتجاوزت عمرها الافتراضي حتى ان بعض تلك المدارس الإدارية سببت ضررا يفوق مزاياها بسبب عدم الملاءمة وتخبط الرؤية.،والعجيب أن تقع تلك الأمور في زمن يتسم باضطراب غير عادي في مناخ قطاع الأعمال وتحول غير مسبوق في هيكل سوق العمل والحكومة يشمل السياسات والاستراتيجيات.
يستعرض هذا المقال ثلاثا من أشهر المدارس الإدارية في مجال الاستراتيجية ومدى ملاءمتها لمناخ الإدارة العصري. يتم فحص المدارس ومبادئها الجوهرية وصلتها بالحاضر. يتناول التحليل المدارس الفكرية لكل من أنسوف وبورتر ودراكر.
فمثلا هناك مصفوفة أنسوف لدور المنتج وكذا إطار القوى الخماسية لبورتر وأخيرا الإدارة بالأهداف لدراكر. يتم تحليل تلك المبادئ وفقا لمزاياها المطلقة وملاءمتها لمناخ الإدارة العصري والمخاطر الكامنة في جوهر تلك المدارس. يعتمد المقال على مراجعة مستفيضة للاستراتيجيات والفكر الاستراتيجي وكذلك على التحليل العصري لمناخ الأعمال والاقتصاد.
خيارات أنسوف وبورتر ودراكـر يجب أن نعترف بأن الثلاثة الكبار يحتلون موقعا مرموقا في المدارس الأكاديمية للإدارة وهم:
إيجور أنسوف وبيتر دراكر ومايكل بورتر فهم يمثلون ثلاث مدارس فكرية وحقب زمنية (قد يعاصر بعضهم الآخر)، فأبحاث أنسوف حول استراتيجية المؤسسات تعود للستينيات وتمثل في ذلك الوقت إنجازا ملحوظا.أما أبحاث دراكر فلقد ظهرت في منتصف الخمسينيات وقدمت وجهات نظر جديدة في منظومة إدارة المؤسسات. أما أبحاث بورتر حول الاستراتيجية التنافسية فلقد ظهرت في الثمانينيات، واعتبرت معلما من معالم الفكر الاستراتيجي في إطار البيئة التنافسية.
لقد أسهم الفرسان الثلاثة في طرح مفاهيم ذكية وأطر إبداعية عالجت القضايا الجوهرية للإدارة في عصرهم. لقد سادت شرعيتهم عقودا طويلة وصمدت أفكارهم عبر تحولات النظم وحالة عدم الاستقرار التي سادت مناخ الإدارة. لقد اجتازوا العوائق الوظيفية والمستويات الإدارية والحدود الجغرافية، إلا أن الوقائع الاقتصادية الجسيمة التي جرت خلال السنوات الماضية قد بدأت تلقي بظلال من الشكوك على اللمسات السحرية للفرسان الثلاثة وإبداعاتهم، فالمشاكل التي طرأت على الدول والصناعة والمؤسسات اتخذت منحى جديدا وشكلت انحرافا ملحوظا - وربما ردة - عن معتقدات السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات حتى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
فالانهيار الجسيم لأسواق رأس المال وضعضعة الاقتصاد الوطني والزيادة الفلكية لمديونية الدول والأفراد مصحوبة بالانهيار السريع لهياكل المؤسسات والسعي الحثيث للتفتيش عن قيادات كاريزمية تمثل معضلات قد حيرت حكمة الحكماء وخبرة الراشدين. كل هذه الأمور بعثت على تقصي كفاءة مفاهيم الأمس ومدى الملاءمة لمحنة اليوم. لقد ساد شعور عام بالحاجة إلى معايير جديدة.
مصفوفة أنسوف لدور المنتـج
يعد أنسوف من أوائل المفكرين الذين اكتشفوا الدور الاجتماعي للإستراتيجية وأن الإدارة الاستراتيجية هي محور الأداء المؤسسي. لقد مثلت أبحاثا وأفكارا متعددة برزت في النهاية في صيغة التخطيط الاستراتيجي، ففي كتابه الذي أخرجه عام 1965عن استراتيجية المؤسساتYGETARTS ETAROPROC الذي يعد أول كتاب إدارة يركز في موضوع الاستراتيجية ويعد أفضل ما أنجز عن الإدارة الاستراتيجية.
وبالرغم من أنه يستهل مؤلفه بالتركيز في هدف مبسط هو «من أجل تقديم نموذج لتخصيص الموارد يمكن من تلبية أهداف المنشأة بأفضل وسيلة» فانه انطلق يطرح أفكاره الجوهرية فتعد مصفوفة أنسوف وكتابه من دعائم الفكر الاستراتيجي وتقسيمه لعملية اتخاذ القرار بين استراتيجي (التركيز في المنتجات والأسواق) وإداري (تخصيص الموارد والنظم) وتشغيلي (إعداد الميزانيات وتنفيذها).
كما أنه طرح الأسس الجوهرية الفكرية للاستراتيجية التي يمثلها المنتج وحجم السوق وقطاعات النمو والمزايا التنافسية وتحليل الهبوط والقدرة والمزج وعدم استقرار السوق والمؤشرات التي تنذر بالخطر (أنسوف 1980).
لقد مهدت اعمال أنسوف الرائدة لعدد من الكتاب الذين أكملوا الأسس التي وضعها أمثال مايكل بورتر (الاستراتيجية التنافسية) وجاري هامل وبراهلد الذين استخدموا مفاهيم الكفاءة الجوهرية والعزم الاستراتيجي (هامل وبراهلد 1990).
تعد مصفوفة أنسوف من إسهاماته الرائدة التي عرفت بـ(مصفوفة دور المنتج) لقد نشر مقالا عام 1957 مهد كإطار لتشكيل الاستراتيجية عبر ضغوط ديناميكية التقلب في أحوال السوق.طرح مقاله عن التحولات الاستراتيجية في مواجهة تغير البيئة اشتملت على النفاذ للأسواق وتطوير المنتجات والتنوع. فبينما عزز النفاذ للأسواق زيادة حصة المنتج السوقية فلقد جاهد العاملون لتطوير المنتج لتحديد أسواق جديدة للمنتجات القائمة ومنتجات حديثة للأسواق الحالية. لقد أسهم التنوع في طرح منتجات حديثة في أسواق جديدة، ومن الممكن أن تقوم مؤسسة بتنفيذ استراتيجية أو أكثر في الوقت نفسه مع مراعاة أن التنوع يقتضي قاعدة موارد ملائمة ومتجددة.
لقد اسهمت مصفوفة أنسوف في صياغة الاستراتيجيات وتقييم المخاطر خلال الثمانينيات والتسعينيات بناء على عرضه للتقلب في سوق الأعمال ونذر الخطر وبدائل الاستراتيجيات ومفاجآت السوق والتنبؤ بالسلوك الاستراتيجي، ولنا أن نتساءل إذا كانت أعمال أنسوف تصلح في مواجهة التحديات الاقتصادية وتقلبات الأسواق التي نعانيها اليوم. للرد على هذا السؤال نذكر المواقف التالية:
أولا: قرار الحكومة الصينية عرض إحلال المنتجات وتقديم مزايا لمستهلكي السلع المعمرة في محاولة لحفز الطلب المحلي والتقليل من حجم الصادرات الأمريكية والغربية للصين. يعد هذا القرار ضمن استراتيجيات النفاذ للأسواق (وجهات نظر صينية 2000).
ثانيــا: قرار الحكومة الأمريكية لدعم ابتكار مولدات الطاقة الشمسية فلقد تبنت إدارة أوباما قرارا استراتيجيا لتطوير المنتجات حتى تحتل أمريكا موقعا رياديا في مجال الطاقة الشمسية.
ثالثا: قيام مؤسسة (جيليت) بتخصيص مليار دولار لبحوث تطوير أمواس الحلاقة (مجلة نيويوركر 1998) وهو يشكل قرارا استراتيجيا لتطوير المنتج والسوق. تبدو الأمثلة الواردة كأنها صدى لأعمال أنسوف في مجال استراتيجيات الإدارة وكأن إنجازات الرجل لاتزال تثمر بعد مرور نصف قرن على إبداعاته.
إطــار القوى الخماسيـة لمايكل بورتـر
يعد بورتر مفكرا إداريا من الطراز الأول بالإضافة إلى كونه كاتبا غزير الإنتاج. لقد ألف عددا من المؤلفات عن المزايا التنافسية والاستراتيجية التنافسية والمواقع التنافسية، تعد من أمهات الكتب (بورتر 1980).
يعد كتاب بورتر عن المزايا التنافسية من أشهر أعماله. تكمن أهمية أعماله في صياغة القوى الخماسية أو «الاستراتيجية المتجددة» ورابطة القيمة كإطار تحليلي رئيسي لمعايير المواقع التنافسية، ويتيح نموذج القوى الخماسية للمؤسسة تقييم قوة الجذب (الربحية المتوقعة) للصناعة وموقعها التنافسي في تلك الصناعة عن طريق تقييم خمس قوى هي: مدى قوة التهديدات ودخول منافسين جدد للسوق ثم تهديد وجود منتجات بديلة ومدى نفوذ المستهلكين ومدى قوة الموردين ومدى وطبيعة المنافسة بين قطاعات الأعمال في السوق.
ففرص المؤسسة في تحقيق إيرادات تقل أو تنعدم كلما زادت حدة المنافسة أو زيادة الحواجز ووفرة عدد كبير من البدائل وزيادة قوى المساومة لدى المستهلكين والموردين.فهذه القوى - وفقا لبورتر - قد تدفع المؤسسة إلى تطوير استراتيجية تنافسية نمطية للتفاضل أو توجيه دفة الكلف مما يتيح لها تقديم أداء ومنتجات أفضل من خلال تصور دقيق وتنسيق لرابطة القيمة (بورتر 1985).