قضايا و آراء
حل القضية الفلسطينية بين الواقع والخيال
تاريخ النشر : الثلاثاء ١٠ أبريل ٢٠١٢
لعله من الممكن تصور تسوية سياسية عادلة تنهي الصراع الحالي بين إسرائيل والفلسطينيين، لكن في العالم الواقعي وليس الخيالي لا يصنع سياسة، فالأمر برمته مرتبط بالقوة، أي بأولئك الذين يملكون القوة والكيفية التي يستخدمونها بها.
إن السياسة لا تتعلق في نهاية المطاف بما يحدونا من أمل أو بما نعتقده بل إن السياسة تتعلق بما يمكن أن نحصل عليه بالقوة التي نمتلكها وبمدى استعدادنا وقدرتنا على استخدام ما لدينا من قوة لتحقيق أهدافنا.
لعل ما يحز في النفس ويثير الحزن والاحباط أن العديد من أصحاب السلطة والقوة قد فعلوا كل شيء من أجل عرقلة الجهود الرامية إلى الوصول إلى تسوية عادلة للصراع بين إسرائيل والفلسطينيين. لقد تسبب هؤلاء حتى الآن في نشوء وضع مشوه داخل إسرائيل نفسها، وكذلك في واشنطن وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة.
في إسرائيل، استطاع المتشددون حتى الآن أن يرجحوا الكفة لصالحهم ويفرضوا كلمتهم. لقد استمرت عمليات بناء المستوطنات غير القانونية وشق الطرق الالتفافية الخاصة باليهود من دون سواهم وتشييد الجدار الفاصل ومصادرة الأراضي بالقوة وتدمير منازل الفلسطينيين على مدى عقود كاملة. لقد أفرزت تلك السياسات تيارا راديكاليا متطرفا يسمح بالاستيلاء على الأراضي وبناء البؤر الاستيطانية ومن ثم توسيعها وتحويلها إلى مستوطنات يهودية قائمة الذات في عمق الأراضي الفلسطينية المحتلة، الأمر الذي تسبب في تمزيق وتشويه خريطة الضفة الغربية.
ففي شهر ابريل الجاري على سبيل المثال انتهكت الحكومة الاسرائيلية القوانين المعمول بها في الدولة العبرية ورفض إزالة بؤرة استيطانية «غير قانونية»، أقيمت على الأراضي المملوكة للفلسطينيين. حتى عندما قامت السلطات الاسرائيلية بإجلاء متطرفين يهود استولوا على أحد المنازل في مدينة الخليل بالضفة الغربية في حركة استفزازية صارخة فقد سعى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى النأي بنفسه عن الانتقادات الصادرة عن التيارات اليهودية الاستيطانية وسارع إلى اعلان عزمه الشروع في تشييد مئات الوحدات السكنية الجديدة ما بين بيت لحم والقدس، وهما المدينتان اللتان كانتا مرتبطتين ببعضهما بعضا قبل أن تصبحا الآن مفصولتين عن بعضهما بعضا جراء السرطان الاستيطاني في الضفة الغربية.
إضافة إلى ذلك فقد نشرت صحيفة «هاآرتس» الاسرائيلية تقريرا حديثا أفاد أن الحكومة الإسرائيلية تنفذ خطة سرية لتخصيص نسبة 10% إضافية من أراضي الضفة الغربية المحتلة للتوسع الاستيطاني، حتى انه أصبح من الصعب على المرء أن يتصور الكيفية التي ستنشأ بها الدولة الفلسطينية أو المكان الذي ستقام عليه.
إن اللوم لا يقع فقط على الحكومة الإسرائيلية الراديكالية الحالية لأن هذه السياسات الاستيطانية الصارخة ظلت تنفذ من دون هوادة على مدى الخمس والأربعين سنة الماضية، علما أنه لا أمل يرجى في إمكانية تغيير هذه السياسات الاستيطانية التعسفية في مستقبل منظور، فاستطلاعات الرأي تظهر أن الناخبين الإسرائيليين سيختارون الحكومة التي تتعهد بمواصلة هذه السياسات الاستيطانية نفسها، بل تكثيفها أكثر من أي وقت مضى.
لقد ظل العرب يتصورون أنه يمكن وضع حد لهذه السياسات الاستيطانية الإسرائيلية فقط «إذا عملت الولايات المتحدة الأمريكية أو المجتمع الدولي على الضغط على إسرائيل حتى تكف عن سياساتها»، غير أن الواقع كان دائما يأتي خلاف ما يتوقعه العرب ويأملونه.
على سبيل المثال، علق العرب آمالا كبيرة على الرئيس الأمريكي باراك أوباما لدى التزامه في بداية فترته الرئاسية بالسعي لإيجاد تسوية للصراع بين إسرائيل والفلسطينيين غير أن تلك الآمال ما لبثت أن تلاشت وتبددت.
لقد صدم العرب وصدم معهم الجميع عندما رأوا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وهو «يؤدب» الرئيس باراك أوباما في عقر داره بالبيت الأبيض. ثم كانت الصدمة أكبر عندما أبدى الكونجرس الأمريكي حفاوة بالغة ببنيامين نتنياهو وضجت القاعة بتصفيقهم الحار مرارا وتكرارا، ما شكل إهانة ما بعدها إهانة للرئيس أوباما.
بعد أن نجحت حكومة بنيامين نتنياهو في ترويضها، راحت سلطات واشنطن تركز في عدة قضايا أخرى مثل الاقتصاد وإيران والانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها في شهر نوفمبر .2012 في هذه الأثناء لن يحظى الفلسطينيون وحقوقهم المشروعة ولو بمجرد لفتة صغيرة من الإدارة الأمريكية.
على مدى الخمس والأربعين سنة الماضية، ظلت هذه الوضعية متواصلة الأمر الذي جعلها تترك أثرها في الفلسطينيين وتفاقم مأساتهم الانسانية. أما مسار أوسلو الذي بدأ سنة 1993 فقد أسس وضعا لا يقل مأساوية عن الكارثة التي خلفها الاحتلال الغاشم على مدى عقدين ونصف عقد من الزمن، ففي فترة ما قبل فترة «اتفاق أوسلو» كان أهم مصدر الثروة التي يعتمد عليها الفلسطينيون يتمثل في تلك الوظائف المتدنية التي يحصل عليها الفلسطينيون في إسرائيل ويتقاضون من خلالها اجورا بائسة إضافة إلى ما ينتجونه من بضائع أخرى زراعية واستهلاكية يروجونها عبر الوسطاء الاسرائيليين الذين يستغلونهم ويمتصون دماءهم.
بعد أن اندثرت هذه المصادر أصبح الاقتصاد الفلسطيني يعتمد أساسا على المساعدات الأجنبية. إن الشعب الفلسطيني يعيش في ظل نظام أشبه بنظام التمييز العنصري حيث انه يعيش محاصرا في كانتونات معزولة، تطوقها الجدران التي تمنع أي تجارة أو سفر، عدا المستوطنات التي تتمدد وتتكاثر كالسرطان وشبكة الطرق الالتفافية الخاصة باليهود التي تخنق مظاهر الحياة اليومية الفلسطينية وتمزق أوصال الضفة الغربية.
كانت القدس تمثل القلب النابض للحياة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية الفلسطينية غير أنها قد فصلت اليوم عن الضفة الغربية بحزام من المستوطنات والطرق والجدران ونقاط التفتيش الأمنية الاسرائيلية.
أما قطاع غزة فقد كان يعاني دائما مظاهر الفقر المدقع، ناهيك عن أنه يعتبر من أكثر بقاع العالم كثافة ديمغرافية وبؤسا وهو بدوره يئن تحت نير الحصار الذي تضربه عليه إسرائيل الأمر الذي أوصل سكانه إلى حالة من اليأس والاحباط القاتل.
لقد أثرت كل هذه الأمور في المجتمع الفلسطيني، الأمر الذي جعل الاقتصاد رهن المصادر الخارجية فيما تظل القيادة الفلسطينية منقسمة على نفسها وفاقدة كل خيال. وبطبيعة الحال فإن هذا القمع الطويل المدى قد أدى إلى مظاهر العنف الذاتي وبقية أشكال التدمير الذاتي الأخرى.
لقد بذلت عدة جهود من أجل تصحيح هذه الوضعية المأساوية إلا أنها اصطدمت بإصرار بعض الفلسطينيين على الاحتفاظ بالسلطة المتواضعة والمحدودة التي يمارسونها كما اصطدمت أيضا بالأطراف الأجنبية التي استخدمت الورقتين المالية والسياسية من أجل إجهاض أي خطوة ترمي إلى تكريس الوحدة الوطنية أو الجهود الرامية إلى تعبئة حركة المقاومة السلمية.
في ظل هذه المساعي الرامية للقضاء على كل أمل في التغيير هناك من يواصل تصوره للسلام ويسعى لتحقيقه على أرض الواقع. إنهم يختلفون في التكتيك حتى في الأهداف. يطالب البعض بالمقاطعة وخروج الاستثمارات من إسرائيل وفرض العقوبات على الدولة اليهودية وتطوير أشكال أخرى للمقاومة الشعبية السلمية في الأراضي المحتلة إضافة إلى تنظيم الصفوف سياسيا في واشنطون.
يؤيد بعض الأطراف حل الدولتين فيما تدعو أطراف أخرى إلى إقامة دولة ديمقراطية واحدة غير أن الجميع يتفقون في رفض الوضع الراهن للأمور، سواء النظام القمعي في الأراضي المحتلة أو السياسات المشوهة في واشنطون أو التدخلات وحالة الشلل التي تكبل كل عمل أو جهد فلسطيني. إنهم يتصورون حلا عادلا وهم يدركون جيدا أن هذا الأمر لن يتحقق ما لم تتوافر السلطة اللازمة لإحداث التغيير الحقيقي على أرض الواقع. إنهم في حاجة إلى ما يحول الخيال إلى واقع ملموس.
* رئيس المعهد العربي الأمريكي