الجريدة اليومية الأولى في البحرين


أفق


لايزال الريفُ واعداً

تاريخ النشر : الخميس ١٢ أبريل ٢٠١٢

عبدالله خليفة



خلال العقود الأخيرة كان الريفُ البحريني من أكثر المناطق في الإنتاج الثقافي الوطني، فيه السياسيون، والشعراء، والقصاصون، والمسرحيون، والتشكيليون يظهرون بغزارة.
رغم البساطة والشظف، ولكن المعاناة والحميمية وحب المعرفة كانت تظهر في العديد من الشباب وهم يتجهون للقراءة والاهتمام بالآداب والفنون.
وذلك ليس غريباً لأن البحرين في العصر الوسيط كانت ريفاً وكانت النتاجات التي يغلب عليها الطابع الديني تظهر فيه. ربما كان الطابع الديني التقليدي قد غلب، رغم بعض الومضات الشعرية المتألقة التي برزت بشكل غريب. وإذ نلاحظ التأثر بالحركات الاجتماعية على مدى قرون بين البحرين القديمة وأوال وبين جنوب العراق وإيران لكن لم نلحظ التأثر بالموجة الشعرية الصوفية الرائعة في إيران.
على مدى العقدين الأخيرين كنتُ ألاحظ هذه الغزارة في القصة القصيرة والمسرح والمقالة وجاء الشعر أقل بكثير، مما عبر عن تحول الريف إلى ما يشبه المدينة الكبيرة المتداخلة، وتوسع الوعي وتوجهه نحو قراءة الحياة، وتتشكل فيه عروض لحياة النماذج الشعبية المعبرة والمتمردة والمغيرة.
إن الحركةَ السياسية لم تتحول إلى دفعة جديدة للنشاط الثقافي المنتظر، على الرغم من ضخامة طموحاتها البرامجية لكنها لم تفعل تحولاً خصباً بل ربما نقلت الريف إلى أزمةٍ لا يعرفُ كيف يخرجُ منها.
ولعل الكثيرين فيه يشعرون بما أشعر به لكنهم لا يعبرون عن ذلك، ولا يجسدونه قولاً وكتابة وفناً.
الحياة في الريف لا تحتاج إلى الاحتجاج غير المفتوح على حل وتطور وبناء، وفيما الريفُ يتآكل وتتهدم أجزاء منه، وتُحاصر مناطق فيه يصعب عليها الانتاج والتطور بل العيش والتنفس هواءً صحياً!
الاحتجاج والبرامج السياسية شيء وعيش الناس ومصالحهم وتطور حياتهم الاقتصادية والاجتماعية شيءٌ آخر.
الريف هو وحده الذي يختنق والمحتجون لا يقدمون له تطوراً وحياة، والمناطق الأخرى في البلد تتاجر وتصنع وتعيش وتأتي إليها استثمارات وجوانب كان يمكن أن تتوجه للريف.
ما دخل الصراع السياسي بتوقف المعيشة وغياب المؤسسات الاقتصادية ومجيء الزبائن والمستهلكين والمنتجين؟
البلد بجناحين، مدني وريفي، وشعب من طبقات ومنتجين وتجار وعمال، ولا يستطيع أن يطير بجناح واحد، جناح يعلو في الهواء، والآخر على التراب وربما على الجمر!
الإسلام ليس مذهباً واحداً، ومن يرد توظيف الإسلام، وتطوير الاجتهادات والفقه والسياسة والحياة الاجتماعية فلا يستطيع من خلال مذهبية واحدة.
عليه أن يتحرك بمنظومة الإسلام، بنهضويةِ دينٍ واحد، وهذه النهضويةُ السلميةُ هي التي تجعل التجارَ يفتحون متاجَرهم ومطاعمهم ويأتي العمال للعمل، ويجيء المشترون لتحريك السوق!
نهضويةُ الإسلام هي التي تتيحُ للمدن أن تُعمرَ وللقرى أن تستثمر وتتطور، ولهذه الأمةِ أن توظفَ رساميلها في الإنتاج، وتخفف نفقات مشتريات الأسلحة، وتعمر الأرياف الفقيرة، ولتلك الأمة ألا تخشى من تسلحها وسياساتها وتتوجه لجعل شعبها متطوراً سعيداً.
تطور الإسلام والمسلمين يأتي من تعاون المذاهب والأمم والشعوب، على مستوى أي بلد، وعلى مستوى المنطقة.
وبدون نهضوية الطبقات الوسطى في هذه الشعوب والمناطق وتمكنها من فتح المتاجر والمصانع وتشغيل العمال ودعم الصحف والكتاب والمسارح والآداب، لا يمكن أن تتطور ديمقراطية ومطالب بتغيير الحياة المعيشية والاجتماعية والسياسية للناس.
ولهذا فإن توقف الأدب والفنون والثقافة والفكر عموماً عن التطور لانسدادِ هذه الآفاق، وتوجيه الشباب للمغالاة السياسية، وعدم توجههم للنضال من خلال الأشكال السلمية الحضارية.
يمكن للمسرحية والمقالة والقصة والرواية والدراسة أن تعبر أكثر بكثير مما يعبر إطار محروق يتفجر في وجه عائلة بسيارتها، ويمكن بقصيدة ولوحة ولافتة أن تبني وتعمر وتبقى خالدة أفضل من عمود كهربائي محروق يدفع بعد ذلك المواطنون ثمن زواله المعتم.
تضرر رأس المال الاقتصادي ورأس المال الثقافي معاً يؤدي إلى الانهاك الاجتماعي، ومن هنا نرى هذه الخسائر تنعكس على صعوبة الإنتاج في الجانبين، فالتاجر يريد أن يطور نشاطه، لكن بدلاً من ذلك يُفلس، والكاتب لا يجد من يدعمه أو يشتري نتاجه أو يسمع صوته فلماذا يكتب ويحرق دمه؟
والأخطر إن هؤلاء الشباب الذين يعيشون في عزلة أو خوف وشظف اجتماعي، لا ينزلون المدن ولا يشترون كتباً أو يتفرغون لصناعة، بل يُحبسون لأنهم حرقوا إطاراً تسبب في أضرار، بدلاً من أن يجسدوا قضيتهم في رواية أو مقالة يعبرون فيها عن أفكارههم وأهدافهم في التغيير.