الجريدة اليومية الأولى في البحرين


قضايا و آراء

من مفكرة سفير عربي في اليابان

حكمة التفكير و«الربيع العربي» (2)

تاريخ النشر : السبت ١٤ أبريل ٢٠١٢



ناقشنا معا عزيزي القارئ في الحلقة السابقة حاجة مجتمعاتنا العربية إلى طريقة تفكير جديدة بعد ما سمي انتفاضات الربيع ألعربي، لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية المرجوة، وعرضنا تصورات البروفيسور ادوارد دي بونو، أستاذ العلوم الذهنية والتفكير والذكاء بجامعتي كمبريدج وهارفارد، عن تحديات آلية التفكير. فقد عرف البروفيسور احدى أهم آليات التفكير وهو الذكاء بقوله: «الذكاء هو الدقة والسرعة الذهنية اللتان تتم فيهما عملية المسح الذهني لما حولنا من معلومات، والتفكير هو المهارات التشغيلية التي على أساسها يعمل الذكاء من خلال سرعة جمع المعلومات والخبرات وتصنيفها وخزنها وتحليلها، للاستفادة منها في التعامل مع التحديات الحياتية». ولو دققنا بدراسة تاريخ العلوم لوجدنا أن معظم الاختراعات هي نتيجة للتغير في طريقة التفكير التقليدية، فحينما يفكر الإنسان في المعلومات الموجودة حوله بطريقة مختلفة ومبدعة يتولد مفهوم الاختراع الجديد، فكلنا نشاهد قشرة الموز تسود بنقط تتزايد يوميا، ولكن لا احد منا فكر لماذا يحدث هذا الاسوداد، وحينما فكر شخص في هذا السؤال حصل على جائزة نوبل، لأن تفكيره ساعده على أن يكتشف أن اللون الأسود هو نتيجة لتفاعل غاز الاكسجين الموجود في الهواء مع مادة موجودة في الموز وهي فيتامين «سي». واستطاع هذا العالم بتفكيره المختلف أن يكتشف فيتامين «سي» المهم لجسم الإنسان، وبذلك اكتشف علاجا لمرض الاسقربوط، وأنقذ الملايين من المرضى الذين أصيبوا بنقص هذا الفيتامين. كما أن البشر لاحظوا منذ بداية الخليقة سقوط التفاحة من الشجرة على الأرض ولكن حينما فكر العالم الفيزيائي إسحاق نيوتن بطريقة مبدعة، وتساءل عن سبب ذلك، استطاع اكتشاف علم الجاذبية الأرضية، وهو أساس علوم الفيزياء، التي طورت الاختراعات التكنولوجية التي نستمتع بها اليوم.
وانتقد البروفيسور عملية التفكير في الثقافة الغربية بقوله: «يرجع فشل التفكير الغربي الذي صاغه عصابة الثلاثة (سقراط وأفلاطون وأرسطو) إلى عدم تهيئته للتعامل مع التغير، بينما يخرج التفكير المتوازي عن الصناديق والإحكام المسبقة لينتقل لتفكير الاحتمالات الكثيرة والمتوازية، تفكير إيجابي يدرس ماذا يمكن أن يكون، لا ما هو كائن الآن». وهنا يقترح البروفيسور طريقة تفكير جديدة سماها التفكير المتوازي، ويقارن بين هذه الطريقة من التفكير والطريقة التقليدية بقوله: «التفكير المتوازي يهتم بالتصميم والاختراع بينما ينحصر التفكير التقليدي بالاكتشاف والبحث. التفكير التقليدي يعتمد على احكام متحجرة آنية (نعم/لا، صح/خطأ، حقيقة/كذب)، التفكير المتوازي يتقبل احتمالات بدون أحكام مسبقة. التفكير التقليدي يهتم بالمنطق المتحجر الذي تترسب فيه الأفكار بعضها على البعض كطبقات متكلسة، لا يمكن تحريكها بسلاسة. بينما يهتم التفكير المتوازي بالمنطق المائي، كموجات الماء تتحرك بسلاسة متغيرة تحرك أفكارها حين تحتاج إلى الاستفادة منها.. التفكير التقليدي يضع الانقسام والإنكار ليفرض الاختيار، التفكير المتوازي يتقبل الاطراف المتناقضة ليكتشف الاحتمالات. التفكير التقليدي يعتقد أن المعلومة حقيقة والأحكام كافية، بينما يبحث التفكير المتوازي من خلال المعلومة عن الابتكار والإبداع. التفكير التقليدي يؤمن بأنك حينما تزيل الأشياء السيئة تبقى الروائع، التفكير المتوازي يعمل ليصمم الروائع. التفكير التقليدي يستعمل الجدل المتناقض والتفنيد للاكتشاف، التفكير المتوازي يستعمل التقارب والتعاون».
وما أحوجنا اليوم بعد انتفاضات ما سمي الربيع العربي لطريقة تفكير مبدعة ومنتجة تدرس المعطيات بميزان متواز وتستنبط الاحتمالات الممكنة بصدق وتجرد! فتصور عزيزي القارئ لو قبلنا بالأطراف المتناقضة وبحثنا عن ابتكار الافكار وصممنا الروائع واستعملنا التقارب والتعاون للتعامل مع المعضلات المختلفة، وابتعدنا عن الإصرار لحل المعضلات المستعصية، بل لو تجاوزناها وأكملنا طريقنا للأمام، الم نمنع العنف والدمار والانقلابات والحروب المتكررة؟ الم نق شبابنا من التطرف الفكري؟ الم نبن مجتمعات عربية مشاركة في التنمية والتطور في عالمنا الجديد؟ وطبعا هذه ليست بفِكر جديدة، فقد تجاوزت اليابان الكثير من المعضلات التي واجهتها بدون حلها بل بتجميدها، واستمرت إلى الأمام. فتعاونت اليابان مع الصين خلال العقود الماضية في كثير من الأمور الاقتصادية والتكنولوجية وتجاوزتا المعضلات السياسية بينهما حتى تأتي الظروف الملائمة للتعامل معها. ألم تتبع اليابان هذه السياسة مع السوفيت حول النزاع على الجزر الأربع الشمالية، التي تعتبر عند شعب اليابان جزرا يابانية مقدسة؟ فلم تصل اليابان إلى قمة تقدمها الاقتصادي والتكنولوجي إلا حينما أجلت التعامل مع الكثير من الأزمات المعقدة التي كانت بينها مع الشرق والغرب، وتجنبت ضياع الوقت، وتفرغت للتنمية والتقدم، بينما انشغل العرب في القرن العشرين بحروب متكررة، ليتناسوا تحديات التنمية والتطور، وينشئوا دكتاتوريات «مخزية».
وعلق البروفيسور على الوضع المحزن الذي يعيشه العالم من حروب ودمار وتلوث بيئي وجشع مفرط، فقال: «فقد نقبل بأن ما حولنا من فقر وتلوث بيئي وحروب متكررة وفوضى محلية هي نتيجة طبيعية للتغير والسلوك الإنساني، وسنتعامل معها كما تعاملنا مع غيرها من قبل، ولو تجاوزنا هذه الطاعة وتساءلنا: هل سبب مشاكلنا هو تفكيرنا الناقص؟ وهل هو السبب في صعوبة تعاملنا مع التحديات الحياتية؟ وهل ستتغير النتائج بتغير طريقة تفكيرنا؟» ويعتقد البروفيسور أن طريقة التفكير الغربية التي حددها سقراط وأفلاطون وأرسطو، كانت مهولة لتقدم الحضارة البشرية، ولكن قد لا تكون الطريقة المناسبة اليوم، لعالمنا المعقد والمتغير بسرعة هائلة، وتساءل عن الحقيقة السقراطية المتكلسة التي نبحث عنها، وكيف نعرف أننا وجدناها؟
فالطريقة التقليدية السقراطية لحل المعضلات تعتمد على جمع المعطيات وتحليل المشكلة واكتشاف السبب والتخلص منه، ولكن يبقى السؤال: ما العمل إن لم نكتشف السبب؟ وما الحل إذا لم نستطع ازالته؟ لذلك يقترح البروفيسور التفكير المتوازي لكي نتجاوز الأسباب ونبحث عن طريقة أخرى للتحرك للأمام. وهذا ما عمل من خلاله الشعب الياباني بعد الحرب، فالأرض محتلة والدستور غريب على الشعب، ولا توجد موارد طبيعية، والمدن محروقة والبنوك خالية من الأموال، ومع ذلك قرر الشعب الياباني أن يعمل من خلال جميع هذه العوائق، لا أن يزيلها، ويتحرك للأمام، بل يتعاون مع العدو ويبني بلاده، ولم يقبل بعذر الانتقام أو القومية أو الوطنية أو أخطاء العسكر ليمنعه من التحرك إلى الأمام وبناء المستقبل.
ويؤكد البروفيسور أنه «من الجنون أصلا أن نستمر في الاعتقاد ان تحليل المشكلة يكفي لحلها، ونحن نطبق نظرية إزالة السيئ لتبقى الروائع، وقد كانت هذه الأفكار كافية لإزالة شاه إيران والرئيس ماركوس في الفلبين والتفرقة العنصرية في جنوب إفريقيا والشيوعية في الاتحاد السوفيتي.. فنحن قادرون على العمل ضد شيء نعتقد أنه خطأ.. ومعظم الثورات عملت ضد شيء معين تعتقد خطأه.. ولكن ماذا حدث بعد ذلك؟ فوضى وقد تحول الوضع إلى أسوأ من قبل.. لذلك يجب أن نطور التفكير التنفيذي البناء».
وهنا قد تتكرر المأساة نفسها بعد ما سمي الربيع العربي، فللأسف الشديد تعليمنا في الوطن العربي يدرب على الوقوف ضد الأشياء وانتقادها، فنحن منتقدون بارعون ونستطيع أن نثور ضد شيء ما وندمره، ولكن لدينا العجز وكل العجز في اصلاح الشيء وتطوير بنائه، فالهدم بانتفاضة وثورة وانقلاب سهل، ولكن يحتاج البناء إلى الكثير من المهارات الذهنية والخبرات الحياتية، وحكمة التصرف.
ولنا لقاء.
* سفير مملكة البحرين
في اليابان