الجريدة اليومية الأولى في البحرين


أفق


القريةُ في المدينة

تاريخ النشر : الثلاثاء ١٧ أبريل ٢٠١٢

عبدالله خليفة



إذا كانت الأبنيةُ تنمو بأشكالٍ متسارعة فإن طرقَ التفكير بطيئة الحركة، وبعد عقود نجدُ التماثلَ في أداءِ الحركاتِ السياسية والاجتماعية من دون أن يحدث تراكم عقلاني فيها.
مشابهةُ النظام الناصري في الخمسينيات وتأييد بعض العامة المتحمسة له يماثل الموقف من النظام الإيراني الراهن وتأييد بعض العامة له، فلا يحدث تغيير في التفكير والأمر لا يرجع للطائفة، بل للموقف السياسي العصبي الذي هو متماثل.
الحماسُ الصاخبُ، والجثومُ عند الإذاعات بصراخها، وبضخامة العواطف التي تلغي التفكير، والعيش على شعارات وكلمات لا تَقبل النقد، وحين تتم مناقشتها تقومُ القيامةُ، وتتصدعُ العلاقاتُ، وربما تتم أذية من يجرؤ على إهانة الرموز.
المطالبة بأن يتم تحليل النظام الناصري من أجل تطوره، ورفض الخطوات المتسرعة العاطفية في الحكم التي يقوم بها، والقبول بالتعددية وتطوير النظام بشكل عقلاني، وصناعة وحدة عربية من خلال تعاون الأنظمة لا عبر القفز على الحدود والتطور المتدرج، هذه كلها تُرفض بحدة، ولا توجد أصلاً آذانٌ تُصغي لذلك.
بين النظام الإيراني الراهن والنظام الناصري أوالنظام العراقي السابق بشكل أقل، مشابهات عميقة في المضمون، لأن المضامين توحدُ الطبقة العليا المسيطرة عموماً في قبضتها المتشددة، فيما تستطيع طبقةٌ محافظةٌ مرنة أن تبقى عبر ضم الليبرالية والديمقراطية إليها عبر تطورات، ولهذا فإن الطبقةً العنيفة الشمولية الحادة تفجر التطور والحياة.
في الحدة التي أتبعها النظامُ الناصري في الداخل عبر سرعة التطورات، كان لها تأثيراتها على المناطق العربية بأشكال متباينة تعكس مستوى التطورات الاجتماعية والسياسية في تلك المناطق.
فقد انجرتْ مناطق مدنيةٌ في البحرين لهذه التأثيرات ودخلتْ فيها بحدة، عبر تلك الأدوات البسيطة من العاطفة الساخنة وعبر محدودية اللغة الفكرية، ففي صحافة المعارضة التي كان يجب أن تستمر لكونها الحاضنة الرئيسية للوعي في ذلك الوقت خاصة، اُستخدمت الجمل النارية ولم تكن ثمة أدوات فكرية تحليلية للأوضاع والمجتمع والتاريخ، وهي خاصيةٌ سنجدها تتكرر في الآراء المذهبية السياسية الراهنة، وكانت المادة الكبيرة الكثيرة في صحافة الخمسينيات المعتمدة على الصراخ تعكس روحاً عنيفة.
لكن كيف تتشكلُ هذه الروحُ العنيفة؟ لماذا يتحول العامي البسيطُ فجأة إلى كائنٍ عنيفٍ يريد أن يضرب ويحرق؟
هذا الإنسان سنوات طويلة نراه طيباً مسالماً، لا يقرب الجريمة، ربما يُحدثُ عنفاً أسرياً، ربما يتشاجرُ مع أصدقائه، لكنه لا يقترب من حرق مصباح كهربائي أو تحطيم متجر، فمن يُدخلُ هذه النزعات العنيفة داخله، من يحوله إلى وحش؟
إن(المثقف) أو المتعلم السائد الذي يظهرُ كجزءٍ من فئة دارسةٍ، والكائن الذي ذهب إلى معاهد النور، هو الذي يقوم بتحويل العامي المسالم لعدواني.
فالعامي يسمع كلماته، وهي التي تُجلب من مركز الدولة الاستبدادية العنيفة ذات الغايات التحولية، وهو الجانب الذي يشترك العامي والمتعلم في الإيمان به، وبجعله مركزاً مقدساً، وتتالى عملية التثقيف لهذا العامي لكي يُبعدَ عن إرثه البسيط المسالم، وتوضع في رأسه شعارات أكبر من فهمه.
ليس في إمكانية المتعلم الشمولي العاطفي الحاد إمكانات لدراسة مجتمعه، أو تطوير لغته الناطقة والمكتوبة، إنه يقوم بعملية سلق في السياسة، ويريد من المجتمع أن يتحول عبر صراخه، وناريته الداخلية. إن النموذج في المركز يريد تطبيقه بسرعة شديدة، وهو يُدخلُ هذه الشعارات في وعي العامي، الذي يتحولُ إلى مسدس أو مطرقة أو عصا في يد ذلك المتعلم.
ويختفي مركزُ الوعي الوطني حينئذ، وهو الصحافة، فتُصادر أو تُمنع، بسبب اللغة النارية والهجوم المباشر والشخصي، وهي مسألة خاطئة في الجانبين الأهلي والحكومي.
وغالباً ما يكون العادي أو العامي من أسرة فقيرة، وهي التي تعاني مشكلات كثيرة إضافة لغياب تراكم المعرفة داخلها، وغياب دور الأهل في فهم السياسة، واكتشاف هذه النار الموقدة، عبر السلبية سنين طويلة ثم فجأة يجدون أنفسهم متورطين في حرائقها.
إنه يجري تغييب الفقراء عقودا طويلة ثم تقوم نخب بجرها عبر زمن قصير لإقامة الجنان على الأرض، لكن يزدهر الجنون.
تطورت وسائل التأثير وظهرت الفضائياتُ والأجهزة المتطورة ولكن العقلية هي نفسها، ونجد المحتوى نفسه وهو الارتباط بمركز متوتر سياسياً يغذي مجرى حاداً بكل وسائل الاتصال والمال والتأثير والتغلغل، لإحداث تحولات سياسية وتغييرات مشابهة له، وتدخل البلدان الأخرى في نفوذه.
رغم أن النظام الناصري يتصف بأهداف قومية تحررية نبيلة لكن طرق الشحن والحدة والمغامرات السياسية أدت إلى هزيمة تلك الأهداف.
بقيت الحارات في المدينة بطريقة التفكير الحادة نفسها ثم انتقلت إلى القرية ولم يحدث تحول ديمقراطي عميق.