قضايا و آراء
بن بلة: في المشرق كما في المغرب
تاريخ النشر : الأربعاء ١٨ أبريل ٢٠١٢
عندما طالبنا الحكم في الجزائر في أواخر سبعينيات القرن الماضي، بإطلاق سراح أحمد بن بلة فلاعتقادنا آنذاك ان سجنه كان يشكل لطخة على جبين الثورة الجزائرية التي كان الراحل الكبير من أبرز قادتها وأقربهم إلى القلب، ولاعتقادنا، ثانياً، ان عودة بن بلة إلى الحرية كانت تشكل عودة عن خطأ كبير، وتصحيحاً لمسار، وفتحاً لباب ؟ ولو ضيق من الامل، ومخاطبة ؟ ولو محدودة ؟ للتطلعات الديمقراطية للشعب الجزائري الذي بذل على طريق المقاومة أغلى التضحيات ليرى بلاده حرة عزيزة كريمة، تسودها العدالة والمساواة وتقودها جماعات مجاهدة تحترم بعضها بعضا، ترعى الحقوق، تؤمن بتداول السلطة وتعمل على استعادة دور الجزائر مغربياً وعربياً ودولياً. فالجزائر التي هزمت الاستعمار الفرنسي وألهبت مخيلة الشعوب، وألهمت الحركات الثورية في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية كانت مهيأة بعد الاستقلال للعب دور كبير وخطير في نهضة القارات الثلاث وتحررها من الاستعمار وبناء مؤسساتها الحديثة على قواعد راسخة مستمدة من القيم السامية التي حركت الشعب الجزائري واضرمت كفاحه التاريخي ضد الاستيطان والتسلط والاستبداد.
وقد راعنا في تلك الفترة انكفاء الثورة وابتعادها عن ممارسة دورها القومي والأممي حيث كان الأمل معقودا عليها لتصحيح السياسة العربية، ونسج علاقات تفاعلية داخل المغرب العربي، وبينه وبين المشرق العربي، ولاسيما ان دور مصر كان مكبلاً بمعاهدة كمب ديفيد التي خذلت القضية الفلسطينية وخدمت الكيان الصهيوني في غير مجال.
وأهمية بن بلة في ذلك السياق لم تكن تكمن من رمزيته النضالية وأصالته الأخلاقية فحسب وإنما أيضاً في ممارسته السياسية وتوجهاته الفكرية حيث كان في طليعة الملتزمين بعروبة الجزائر وثورتها الخالدة، وفي مقدمة المؤمنين بدور مصر ووحدة النضال العربي وقد تشبع خلال محنته في السجن بتجربة غنية بلورت أفكاره الديمقراطية والوحدوية، ورسخت ايمانه بالتعددية، وحقوق الغير، أفراداً وجماعات، في الجزائر كما سواها ؟ مما أهله ان يستأنف دوره الريادي في البناء والتطوير، وصد تيارات التطرف والاستبداد، ومساندة تيارات التقدم والانفتاح ولاسيما ان أحدا لا يستطيع التشكيك في إيمانه الديني أو معتقده القومي أو رؤيته الإنسانية.
وبرحيل بن بلة اليوم تزداد الساحة العربية تصحراً وافتقاراً إلى شخصيات عربية فذة تحمل روح العصر، عابرة للكيانات والأقاليم، مناهضة للمخططات والخرائط الأجنبية، مؤمنة بتحرير فلسطين، ناهضة للتفاهم مع دول المحيط، متنبهة لإقامة أفضل العلاقات مع الدول المتحررة، حريصة في كل زمان على احترام الذات وإرادة الشعب ولاسيما في التعامل مع دول العالم.
وعندما خرج بن بلة من السجن والتقيناه مراراً في بيروت وسواها كان في كل مرة يبرهن عن تفوق وسعة إدراك بقضايا المنطقة والعالم فهو لم يترك للحقد ان يكرر خطأه، ولم يسمح لليأس ان يتسلل إلى داخله فقد عرف كيف يتخلص سريعاً من رواسب الماضي وارتدادته وكيف يزيد من مساحات الحوار مبشراً بالانفتاح والتفاهم بين مكونات بلاده كما البلاد العربية، محذراً من النزعات الفردية والسياسية الفئوية والممارسات الاقصائية، داعياً في الوقت نفسه إلى تفاهمات عريقة بين التيارات الاسلامية والقومية مذكراً الجميع بمحنة العراق واحتلال فلسطين وان طريق النضال مازال في بدايته.
وأذكر انه عندما زار لبنان المرة الأولى بعد خروجه من السجن كان حريصاً على زيارة كسروان واللقاء بأصحابه وأصحاب عائلته هناك. مبادرته كانت رسالة في غير اتجاه لاعتماد الحوار، وبناء الثقة ونبذ الأحقاد. أما بيروت (ومعها كل المدن اللبنانية) التي قدمت نساؤها الأساور للجزائر وثورتها يوم كانت فرنسا تكوي (القصبة) واخواتها فقد رأيت عينيه تفيضان بالحب والاعتزاز نحوها وتستعيدان في الوقت نفسه ذكريات مجيدة تسقط على أقدامها أوراق الخريف.
واليوم إذ يمضي بن بلة إلى جوار ربه مطمئناً مرتاح الضمير تاركا في الحياة العربية أغلى الذكريات، لابد من أن نذكر له أنه قائد جزائري كبير أحبه المشرق كما أحبه المغرب وقد رحل من دون ان يخلف وراءه ثروات وأملاكا وحسابات في المصارف أو غيرها.
* وزير لبناني سابق