الجريدة اليومية الأولى في البحرين


قضايا و آراء

من مفكرة سفير عربي في اليابان

فلسفة الحوار و«الربيع العربي»

تاريخ النشر : السبت ٢١ يناير ٢٠١٢



لقد تجنبت دائما الرد على تعليقات القراء منذ بداية خبرتي في الكتابة، حيث اعتقدت أنه من حق الكاتب والقارئ ابداء الرأي بحرية وبدون أي إحراج، وخاصة بعد أن سهلت التكنولوجيا الإلكترونية فلسفة الحوار على شبكات الإنترنت، ولكن سأخالف اليوم هذه القاعدة بعد أن تسلمت تعليقين متناقضين من قارئين عزيزين وكريمين، ووجدتهما مادة جميلة لمقال اليوم. فقد علق الأخ وسام حسن على مقال، حكمة التفكير والربيع العربي، في الرابع عشر من ابريل لعام 2012 بقوله: «مشرط جراح واستئصال الخلل، الافكار الواردة في المقال أراها مشرط جراح ماهر، اكتشف خلل التفكير الجماعي لدى معظم المجتمعات المتخلفة، وخاصة العربية، ومن جهة أخرى، يجد القارئ في هذا المقال الاجابة الوافية للتساؤل المزمن عندنا، وهو كيف تمكنت اليابان من النهوض السريع بعد هزيمتها القاسية في الحرب لتكون ضمن أهم دول العالم تقدماً وحضارة؟ مقال رائع، يستحق أن يدرج في وسائل التربية في مناهج التعليم في بلداننا العربية. مع التحية الخالصة والشكر الجزيل للكاتب الفاضل».
كما كتب الأخ الفاضل الشاب أحمد تعليقا يقول فيه: «وزير وسفير، بالأمس كنت وزيرا، واليوم اصبحت سفيرا، وغدا ستنال وساما أعلى، لكونك انتقدت الربيع العربي، وتطاولت على ثوار واحرار البحرين، فمقالك عسل، لكنه مدسوس بالسم، اي شخص يتابع تلك المقالات سينبهر بما جاء في مقدماتها وفي مضامينها، ولكنها قائمة على اساس باطل، والباطل لا يعلو انما الحق يبقى ويخلد، ولنا لقاء».
ليسمح لي الأخ الفاضل أحمد بأن أضيف له معلومة جديدة وهي أني قد حصلت على وسام الدرجة الأولى لمملكة البحرين في عام 2004 على الخطة الصحية الوقائية لمملكة البحرين حينما كنت وزيرا للصحة.
ولنبدأ حوارنا مع الأخ الفاضل أحمد بالأسئلة التالية: هل ما يسمى الربيع العربي، هل هو فعلا ربيع عربي؟ أليس تعبير الربيع العربي لانتفاضات القرن الحادي والعشرين هو تعبير انفعالي، عاطفي، متسرع؟ ألم تعتبر بداية ثورة مصر في الخمسينيات ربيعا عربيا؟ ألم يسمى انقلاب معمر القذافي في الستينيات ربيع الثوار؟ ألم يتحول انقلاب حافظ الأسد على رفاقه إلى ربيع عربي؟ ألم تكن ثورة أبورقيبة ربيعا؟ ألم يصرخ الجميع في بداية الثورة الإيرانية بأنها ربيع؟
وليسمح لي الأخ أحمد بأسئلة أخرى: هل من سميتهم ثوار وأحرار البحرين معصومون عن الخطأ، ومحرم علينا مناقشة أفكارهم؟ أليست الديمقراطية التي تطالب بها تعتمد على تحاور الأفكار مع حق الاختلاف؟ ألم يؤكد فولتير أنه بقدر ما يطالب بحرية التعبير عن رأيه مستعد لأن يضحي بحياته لكي يعبر الآخرون عن ارائهم بحرية؟ وما هو الباطل في رأيكم الكريم؟ وما هو الحق الخالد؟ أليس تعبير الباطل تعبيرا مطلقا، لا يمكن الخلاف عليه، ومرتبطا بأمور الآخرة الدينية، فمثلا الوضوء باطل بعد التبول، والصيام باطل بعد تناول الطعام، فلا خلاف على ذلك بعد فتوى رجال الدين الأفاضل على ذلك، وهو مجال اختصاصهم الذي سهروا الليالي لإتقانه؟ أليست الأمور الحياتية قضايا نسبية معرضة للخلاف والحوار؟ وما هو الحق؟ أليست كلمة الحق مشتقة من كلمة الحقيقة؟ وما هي الحقيقة التي نتحدث عنها؟ ومن يملكها؟ هل أمورنا الحياتية هي قضايا نسبية أم حقائق مطلقة؟ وهل تعلم أستاذ أحمد أن فلسفة التفكير هي أحد العلوم المهمة في القرن الحادي والعشرين؟ وهل تعرف أنه بالتعليم والتدريب يمكن تطوير طريقة التفكير التي تعتمد على شبكات معقدة من شبكات الالياف والخلايا العصبية والخلايا اللاسلكية التي يمكن استمرار تطويرها في مختلف مراحل العمر البشري؟
ليسمح لي الأستاذ احمد بأن أذكره بعبارة في المقال الذي ناقشه، لأستاذ علوم التفكير بجامعة هارفرد، البروفيسور إدوارد ديبونو حيث قال: «المشكلة هي أن تعليم تطوير عملية التفكير هي من أصعب الأشياء المحرجة للمناقشة.. ودائما يترافق مع مناقشتها الامتعاض والاستياء وأحيانا الغضب، ويعطي الشعور للآخرين بأن تفكيرهم ليس كما يجب، بل الأسوأ قد يتصور البعض أنك تحاول أن تظهر بأن تفكيرك أفضل منهم. والصعوبة الأخرى هي أن التفكير مترافق عادة مع الغرور وأنا الذات، فانتقاد تفكير شخص ما يعتبر تهديدا له وينبه غروره وأنا الذات بداخله.. وتترافق كلمة التفكير بمخيلتنا بالنظر والسمع والتكلم والمشي والتنفس، فلا أحد يتصور أنه يحتاج لتعلم ممارسة هذه الحواس». فمع أن مناقشة التفكير محرجة وقد تضايق الآخرين ولكن تطور المجتمع يعتمد على كيف يفكر شعبه لأن نتيجة التفكير قرارات مهمة وقد تكون مصيرية، وخاصة في المجتمعات الديمقراطية التي تختار نواب برلماناتها، لتحدد مستقبل أنظمتها وتطورها.
والمشكلة أن طريقة تفكيرنا لم تهيأ للتعامل مع التغير، لذلك نحن في حاجة للتفكير المتوازي لننتقل من صناديق الاحكام المسبقة لتفكير الاحتمالات الكثيرة والمتوازية، تفكير إيجابي يدرس ماذا يمكن أن يكون، لا ما هو كائن الآن. «فالتفكير المتوازي يهتم بالتصميم والاختراع بينما ينحصر التفكير التقليدي بالاكتشاف والبحث. التفكير التقليدي يعتمد على احكام متحجرة آنية (نعم/لا، صح/خطأ، حق/باطل)، التفكير المتوازي يتقبل احتمالات بدون أحكام مسبقة. التفكير التقليدي يهتم بالمنطق المتحجر الذي تترسب فيه الأفكار بعضها على بعض كطبقات متكلسة، لا يمكن تحريكها بسلاسة. بينما يهتم التفكير المتوازي بالمنطق المائي، كموجات الماء تتحرك بسلاسة متغيرة تحرك أفكارها حين تحتاج إلى الاستفادة منها.. التفكير التقليدي يضع الانقسام والإنكار ليفرض الاختيار، التفكير المتوازي يتقبل الاطراف المتناقضة ليكتشف الاحتمالات. التفكير التقليدي يعتقد أن المعلومة حقيقة ولو الأحكام احكام كافية، بينما يبحث التفكير المتوازي من خلال المعلومة عن الابتكار والإبداع. التفكير التقليدي يؤمن بأنك حينما تزيل الأشياء السيئة تبقى الروائع، التفكير المتوازي يعمل ليصمم الروائع. التفكير التقليدي يستعمل الجدل المتناقض والتفنيد للاكتشاف، التفكير المتوازي يستعمل التقارب والتعاون».
فتصور يا أستاذ احمد لو قبلنا بالأطراف المتناقضة، وبحثنا عن ابتكار الافكار، وصممنا الروائع، واستعملنا التقارب والتعاون للتعامل مع المعضلات المختلفة، وابتعدنا عن الإصرار على حل المعضلات المستعصية، بل لو تجاوزناها وأكملنا طريقنا للأمام، الم نحقق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المرجوة؟ أليس من الغرابة أن نستمر في الاعتقاد ان تحليل المشكلة يكفي لحلها، وأن كل مشكلة لها حل؟ اليس من الأفضل أن نحاول التعامل مع المعضلات الحياتية بدل حلها؟ أليس تجميد المعضلة طريقة عقلانية لمعالجة المشكلة في بعض الأحيان، حتى تخف عواطف انفعالاتها؟
ولنتذكر يا اخ أحمد حوار البروفيسور دي بونو حيث قال: «قد حاولت التجارب البشرية في القرن العشرين تطبيق نظرية إزالة السيئ لتبقى الروائع، فقد كانت هذه الأفكار كافية لإزالة شاه إيران، والرئيس ماركوس في الفلبين، والتفرقة العنصرية في جنوب إفريقيا، والشيوعية في الاتحاد السوفيتي.. فنحن قادرون على العمل ضد شيء نعتقد أنه خاطئ.. ومعظم الثورات عملت ضد شيء معين تعتقد بخطئه.. ولكن ماذا حدث بعد ذلك؟ فوضى وقد تحول الوضع لأسوأ من قبل.. لذلك يجب أن نطور التفكير التنفيذي البناء».
وهنا قد تتكرر المأساة نفسها بعد ما سمي الربيع العربي، بانتشار الفوضى، وتدهور الاقتصاد، وهروب الاستثمارات الأجنبية، وانخفاض سعر العملة، وتناقص نسب السياح، فللأسف الشديد تعليمنا في الوطن العربي يدرب على الوقوف ضد الأشياء وانتقادها، فنحن منتقدون بارعون، ونستطيع أن نثور ضد شيء ما وندمره، ولكن لدينا العجز وكل العجز في اصلاح الشيء وتطوير بنائه، فالمعارضة والهدم بانتفاضة وثورة وانقلاب سهل، ولكن يحتاج البناء إلى كثير من المهارات الذهنية والخبرات الحياتية، وحكمة التصرف.
ولنا لقاء.
* سفير مملكة البحرين في اليابان