الثقافي
دراما تركية وخراب بيوت عامرة
تاريخ النشر : السبت ٢١ يناير ٢٠١٢
يبدو أن ما تصدره تركيا إلى البلاد العربية في هذه الأيام لا يتضمن المواد الغذائية والمواد الصناعية المصنعة جزئيا أو كليا فقط، بل شكلت الدراما التلفزيونية التركية في هذه التجارة ضلعا مهما جاوزت موارده لتركيا أكثر من أربعة مليارات دولار، خلال السنوات الخمس الأخيرة، وبالرغم من الاختلاف الكبير بين أذواق الشعب التركي في تقبل هذه الأنواع التلفزيونية الدرامية، وما يصدّر حاليا للدول العربية، فإن إنتاج هذا النوع من المسلسلات هو للتصدير الخارجي فقط، فتركيا بلد تربت أجياله الحالية والسابقة على مفاهيم التربية العَلمانية، التي سعت الحكومات التركية السابقة، لتأكيدها في المجتمع التركي منذ بداية حكم مصطفى كمال أتاتورك (1922-1938) بعد سقوط الخلافة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، وهذه المفاهيم تختلف اختلافا جذريا عن المفاهيم المحافظة الموجودة في الكثير من مجتمعاتنا العربية، فالمجتمع التركي الذي بني على تلك الأسس، لا يرى مشكلة في عقد الصداقة بين الجنسين خارج إطار الزوجية، كما أن ما تنجبه تلك الصداقات من أطفال تتبناهم الدولة، ولا مشكلة في انتشار دور اللهو والجنس المرخص من قبل الدولة، والملاهي والبارات الليلية، ودور المراهنات ومحلات لعب القمار المرخصة، التي تظهر بكثرة كجزء من حياة أبطال هذه الدراما.
إضافة إلى كل ذلك طرح أسلوب حياة المواطن التركي على هذه المجتمعات المحافظة، ومن هنا يحصل التناقض بين ما هو معروض على الشاشة التلفزيونية، وما تعيشه الأسرة المحافظة، فطوال العقود الماضية كان يرتب في تركيا أسلوب حياة الأتراك ليماثل أسلوب حياة الأوروبيين بسبب الرغبة في الانتماء إلى أوروبا بدلا من الانتماء إلى المحيط الإسلامي، الذي يعتبره العَلمانيون الأتراك محيطا متخلفا، ولم تنل منه تركيا غير التأخر عن الركب الأوروبي، وتذكير الأتراك بمواقف الشعوب العربية منها، خلال الحرب العالمية الأولى (1914-1918) التي كانت في معظمها ممالئة للدول الأوروبية، التي كانت تحارب الدولة العثمانية بل ان بعض شعوب هذه الدول العربية انحاز في الحرب إلى جانب الحلفاء ضد الخلافة العثمانية الإسلامية، وكان علمانيو تركيا قد عزفوا بمهارة على هذا الوتر الحساس لدى الشعب التركي، لإبعاد تركيا عن محيطها الإسلامي بل إقامة عداء سافر بينها وبين الدول العربية من خلال عقد معاهدات صداقة، وتعاون عسكري مع إسرائيل، ووصل العداء أوجه بين الطرفين في نهاية السبعينيات حين حشدت تركيا آلتها العسكرية، وجيوشها على حدود سوريا الشمالية، وكانت أجواء مواجهة محتملة بين البلدين بسبب حزب العمال التركي وزعيمه عبدالله أوجلان، لولا لطف الله تعالى، الذي حقن دماء الشعبين.
وكانت وقتها في تركيا قوى إسلامية مبعثرة الجهود، محاربة في كل مسعى تقوم به من قبل القوى العَلمانية المسيطرة على مفاصل الحكم في تركيا، ويسندها في ذلك دستور وضع ليعزز توريب تركيا »جعلها أوروبية« منذ ألغى أتاتورك الخلافة عام 1924 لتتوحد تحت زعامة المرحوم البروفيسور نجم الدين أربكان الزعيم الإسلامي، الذي قاد الحركة الإسلامية في تركيا منذ عام 1971 بعد تأسيسه لحزب إسلامي كان يسمى (حزب النظام الوطني) وقد حورب هذا الحزب من قبل القوى العَلمانية في البلاد، ونجحوا بإصدار أمر حكومي بحله، ولكن أربكان عاد وأسس حزبا إسلاميا جديدا تحت اسم (حزب السلامة الوطني) عام 1972 وفي عام 1973 نجح الحزب بالوصول عبر الانتخابات إلى المشاركة في إنشاء حكومة ائتلاف مع حزب الشعب الجمهوري بقيادة بولنت أجاويد، حيث حصل حزب أربكان على سبع وزارات، وكانت هذه البداية للقوى الإسلامية للوصول إلى السلطة في تركيا، ولتفرض وجهة نظرها في طريقة حياة الشعب التركي، وتعبر عما يريده أغلبية الشعب التركي.
والتحول الكبير في السياسة التركية قاد إلى علاقات بناءة بالدول التي تقع إلى الجنوب منها، وبدأت علاقات جديدة بين الدول العربية والإسلامية بتركيا خصوصا حين بدأت بتغيير علاقتها بالجماعات العرقية المختلفة في تركيا، كالأكراد الذين يعيشون في جنوب تركيا، وهم ثاني جماعة عرقية في تركيا بعد الأتراك، وهم يطمحون إلى تحقيق مطالب خاصة بهم، ومنها استخدام لغتهم القومية، وإشراكهم في إدارة مناطقهم، وإطلاق التنمية في المناطق التي تسكنها غالبية كردية، وكذلك الأتراك الأذريون الذين يتجاوز عدد نفوسهم في العالم ثلاثة ملايين ومنهم مليونان يعيشون في تركيا، وهم جزء من الطائفة الشيعية في تركيا، التي عاشت في ظل ظروف صعبة في فترة الحكومات السابقة، وكذلك القومية الأرمينية التي تتدين بالمسيحية وهناك أيضا أقلية يهودية.
ان الدراما التلفزيونية التركية التي دبلجت إلى اللهجة الشامية، المحبوبة من قبل العرب والمفهومة لديهم، التي بدأت تغزو البيوت في الدول العربية تدين بما كان يدين به المجتمع العَلماني التركي قبل أن يصل حزب العدالة والتنمية الإسلامي إلى السلطة في تركيا، فهي مشبعة تماما بآراء كتاب سيناريوهات تلك المرحلة، وحملت وجهة نظرهم في الحياة، التي بدأت تؤثر في توجيه الأسرة العربية من خلال ما تطرحه من موضوعات، وأزمات كالصداقة الحرة بين الرجال والنساء، وإظهار النساء، وهن يشربن الخمور، ويلعبن القمار، والتطرق في الحبكة الدرامية للخيانات الزوجية من الطرفين، حيث تنقل للمشاهد في غرف نوم الأسر المحافظة، وصالات بيوتهم مشاهد نابضة بالغرام! ولقد نقلت وسائل الإعلام في بلداننا العربية أخبار طلاقات وتسببت بخراب بيوت عامرة، وكانت الدراما التركية أحد أسباب ما حدث لهذه العائلات، وهناك أمثلة كثيرة لهذه المآسي العائلية، فأحد الرجال من الإمارات أقسم ان يطلق زوجته لو أنها رأت حلقة أخرى من »العشق الممنوع« ففعلت فطلقها بالثلاث، ولم يشفع لها اثنان من الأبناء في عمر الزهور، وآخر من الأردن منع زوجته من وضع صورة تجمع بين مهند وسمر في ألبوم العائلة، وهما في وضع حميم من إحدى لقطات المسلسل، ولم تسمع كلامه، فطلقها من دون أن يرف له جفن أو تنتابه رحمة بزوجته التي لم تمر سوى أيام قليلة على مرور ذكرى زواجهما الأولى! وهناك قصص كثيرة تروي عن زوجات غيورات كسرن شاشات التفزيون بما وقع تحت أيديهن من أثاث المنزل بسبب أظهار الزوج إعجابه بجمال إحدى ممثلات المسلسل التركي، وهناك أم عراقية حنون نذرت أن تذبح ثلاث دجاجات وهي كل ما تملك عائلتها من الدجاج، إن بطلة المسلسل التركي الذي كانت تتابعه عثرت على ابنتها الضائعة، وحالما وجدت بطلة المسلسل طفلتها اوفت بنذرها وذبحت الدجاجات، وحرمت العائلة من البيض في فطور عائلتها الصباحي، وخلقت للعائلة مشكلة حقيقية!