الجريدة اليومية الأولى في البحرين


الثقافي


في «الإمبراطور الصغير» للروائي محمد عبدالملك صراعٌ لا ينتهي

تاريخ النشر : السبت ٢١ يناير ٢٠١٢



صراعٌ لا ينتهي، دوامة مثقلة بما يرزح عليها، هي صعبة في الدوران، أحداث لا تستطيع الخروج من بطن التاريخ، مثقلة بالعذابات والأحزان، والضنك اليومي. ؟تتصاعد الأحداث، والإمبراطور لا يلين وان لان فللحظاتٍ هي تحت ضغط المحتجين. الجزر الأرخبيلية تفيضُ بالثروات، وكلما لامس الإمبراطور بريق هذه الثروات وتعاظمها ازدادت شهوته نحو الإصرار على البقاء واستعمار هذه الجزر. الإمبراطور الصغير، لا يعنيه الناس الآخرون بقدر ما تعنيه الثروة التي؟يجنيها من هذه الجزر، ولما مر الوقت سريعاً ؟كبرت هذه المستعمرات لوجود الثروة المخزونة في هذه الجزر.
هكذا قدم الروائي البحريني محمد عبدالملك روايته الجديدة «الإمبراطور الصغير» رواية مشحونة بالأحداث، ومكتظة بالآلام وبشجون الناس الذين يعيشون في أرخبيل مكون من الجزر التي استعمرت من قبل الأجنبي بحثاً عن الثروة المخزونة في هذه الجزر. رواية نهجَ في تأليفها الروائي عبدالملك منهجا توثيقيا تاريخيا، متصلا بأحداث لا تنقطع، وصراعات أفرزتها علاقة الإمبراطور بالناس أبناء الجزر، ونحت الرواية منحى شخوصيا واقعيا مرتبطا بأحداث مشحونة ومتصلة بنضال الناس، بعد استعمار طويل لهذه الجزر من قبل الغزاة الذين استحوذوا على خيرات هذه الجزر الغنية بالثروات.
محمد عبدالملك سارد للتاريخ الجميل، ودائماً نجد لدى الروائي؟ تلك الدقة في تلمسه لأحداث الصراع، فكل عمل له لايخلول من أحداث ينسجها الروائي، يجمع بينها الواقعي والمتخيل، وفي أكثر أعماله الروائية نرى هذا الخيط بارزاً عنده، ومشحوناً بالضغط النفسي، ففي قصته «غليون العقيد» التي تتجلى فيها قوة الحدث الذي أبرزه المؤلف ليطرح عبره تلك الأبعاد المشحونة بالضغوط النفسانية ذات العلاقة الإنسانية التي تعد جسرا أوليا لعبور عبدالملك نحو الرواية التاريخية، لأنه قادر على حمل هذه الشِّحَن من الأحداث التي تكتظ عبر الصراع العميق. صراع تميز فيه محمد عبدالملك منذ مجموعته القصصية الأولى «موت صاحب العربة»، حتى «غليون العقيد» التي جاءت عن طريق مشروع النشر المشترك بين المؤسسة العربية للدراسات والنشر، وقطاع الثقافة والتراث الوطني بوزارة الثقافة.
هذه الرواية التي تدور أحداثها في جزر الأرخبيل إبان أزمة سياسية تعصف ببلاده (الأرخبيل) حيث ترغب الشركات الأمريكية في التنقيب عن الذهب، ومن هذه النقطة يبدأ عبدالملك سرد تاريخ طويل لهذا الأرخبيل الذي يعاني أهله ظلم هذا الإمبراطور ورغبة شركات التنقيب في نهب خيراته، ومحاولات الأهل بقيادة (الزعيم) التخلص من كل هذا الظلم، حيث تنتهي الرواية بموت الإمبراطور بعد أن انقلب عليه كل شيء إثر تخلي إدارة المستعمرات عنه وتقديمه للمحاكمة. هذا التاريخ الذي لم يستطع ملك التخلص منه، بل حرص على أن يكون في حضرته من دون منازع، وانكب عليه ليفتح صفحاته المؤلمة، مسجلاً بذلك حدثا تاريخيا مر على هذه الجزر. فهو بين عقلية الروائي الذي يحرك الشخوص ويفتح لكل شخصية معاناة مختلفة عن الشخصية الأخرى، وحكايات تكبر عبر سردها تلك الشخوص، نراه في رواية الإمبراطور الصغير يحجم هذه الشخوص، ولا يذكر أسماءها إلا رمزاً، مثل المعارضة والمظاهرات التي احتجت على سياسة الإمبراطور الصغير الممثل لإدارة المستعمرات، ويكتب التقارير يكذب فيها المحتجين ويصفهم بالأميين والغوغائيين، وهي أكاذيب يلمع فيها صورته حتى لا يخسر مركزه في إدارة المستعمرات.
بين هذا التاريخ وبين حكاية الراوي تبرز تلك الإشكاليات الفنية التي هي في صلب الرواية، لا نراها بمثل ما رأيناها في روايات عبدالملك الأخرى التي يكون عنصر الأحداث فيها هي الشخوص البارزة في العمل التي يبني من خلالها الراوي أكثر من حدث بشكل متسق ومتواصل مع أحداث الرواية وما يفرضه الراوي على الشخوص. فعبدالملك رغم ما طرحه من حدث سياسي قدم مع المستعمر الأجنبي، ظل محوره الأساسي هو التاريخ، من دون المفهوم الروائي المعروف في فنيات الرواية. الجامع بين لغة السارد ولغة التاريخ رغم ما في هذا العمل من أحداث فإنها ظلت في صلب العمود الفقري؟ ؟للتاريخ المعاصر، تاريخ جزر الأرخبيل، رغم وجود الراوي فإنه راوٍ؟ في اعتقادي متسلط وعنيد، وضع قارئه بين لافتات من الاحتجاج وتنكيل مستمر من قبل الإمبراطور الصغير الذي استهواه فتح أبواب السجن لكل معارض.
محمد عبدالملك يذكرني في تأليفه رواية الإمبراطور الصغير بالرواية التوثيقية التاريخية للروائي المغربي عبدالهادي بوطالب «وزير غرناطة» التي ركز فيها في تاريخ الأندلس أثناء أفول نجم مملكة بني الأحمر بغرناطة في العصر الوسيط، ولاسيما في عهد الدولة المرينية إبان القرن الثامن الهجري لسياسته الاستعمارية.
ولستُ معنيا بتاريخ كتاب الرواية بقدر اعتنائي بما قدمه ملك في صورة تاريخية توثيقية، حاكت الرواية ولم تلتزم بفنياتها المعروفة في الرواية المعاصرة أو ما قبل المعاصرة. لأن الروائي ملك سرد لنا حكاية الإمبراطور من دون فتح أبواب الرواية بالشكل الذي تتوكأ عليه من قوة الحدث وتنوعه من خلال سرد الراوي لحالات الشخوص النفسية والسياسية والاجتماعية في ظل حدث كبير هو المحور الأساسي للصراع. أما ما قدمه المؤلف في الإمبراطور الصغير فهو مختلف وان توكأ على حدث احتلال الأرخبيل من الجزر، لكنه لم يذكر لنا سوى الأحداث التي برزت عن الزعيم الممثل للمعارضة وللناس، وعن الإمبراطور الذي يمثل وجه الاستعمار، ولم يوغل في تفصيل تلك الأحداث أو يكشف بعض مسبباتها، وظل القارئ يلهث في قراءة السطور، فلا يغيب عنه الإمبراطور الصغير ولا الزعيم، وأحداث ترتبط بهذين الشخصين، من دون ولوج الراوي نحو شخوص أخرى يسرد لنا حالاتها، وكيف تعيش وما علاقتها بالمستعمر، هل هي راضية بوجوده أم هي معارضة.
شخوص لا توجد بالاسم، وتظل خيطاً ضعيفاً في صلب تاريخ الأرخبيل. المعارضة يبرزها الراوي في ثوب المحتجين على الإمبراطور لكن هذه المعارضة، يذكرها الراوي بشكل رخوي ليس له ملامح فنية الرواية، بقدر ما له من نوافذ تاريخية لقرن مضى. كل هذا التاريخ المشحون بالألم، لا نحسه لأنه مفقود العاطفة، وكان الأجدر بملك كتابته بالشكل التاريخي لا الروائي، لوجود عنصر البساطة اللغوية التي وظفها من خلال شخصية ساردة للتاريخ محورها الراوي، التي هي في اعتقادي تساعد الراوي على تحريك ما رمز له عبر شخصية عاقلة فاعلة في سرد أحداثها، لا مركونة في جانب، تتحدث عن المعارضة من قبل الزعيم، وأيضا يظل الإمبراطور الصغير كبطل الرواية ضعيفاً في النسيج الروائي، لأن الراوي تركه علماً من دون بريق ضوء، فلا نعرف عنه سوى انه قائد مستعمر ينفذ أوامر أسياده المستعمرين، الذين يهمهم الهدوء حتى يسرقوا ما تبقى من ثروات هذه الجزر. لكنه في الجانب الفني من الرواية، قائد معتم، لأن الراوي جعله معتماً في علاقته مع الأهالي.
الجانب الفني في عمل محمد عبدالملك؟ «الإمبراطور الصغير» يبرز في قدرة محمد على تحريك السرد من خلال حدث تاريخي، يشهد له لكنه افتقد توثيق المؤرخ مما جعل العمل عائماً، وفي فترة زمنية هي أواخر القرن التاسع عشر أو بداية القرن العشرين. وثمة جانب آخر هو أن المؤلف يضع الراوي قاب قوسين من السؤال،لماذا اكتفى بالسرد على حساب التوثيق، رغم أن وجود السرد أضعف توثيق المرحلة التاريخية للحدث.