الجريدة اليومية الأولى في البحرين


الثقافي


صوتُ الاثنين

تاريخ النشر : السبت ٢١ يناير ٢٠١٢



تتكولان الحياة مُحدِثة ذلك الصدى بين ذكرٍ وأنثى يتردد بينهما في قديمِ قصةٍ لن تنتهي أبدا، إنهما آدم وحواء المرأة التي حفظت الحياة وإنهما رأيا الجنة معا وعاشا فيها ربما أكثر مما عاشت الأرضُ في الدنيا من أعوام.
كللا شيءٍ قبل الضوء لم يكن موجودا وكللا علمٍ عن عقل الإنسان كان مجهولا بعد أن نسي ما وراءَ الظلمات العميقة، ظلمات تشبه القبرَ حين كانت الرحمُ قبرَه الذي نقله إلى حياةٍ أخرى فبدأ يتعلم وبدأ يخطو ويتكلم وفي صدره يختبئ قلبه الصغير طاهرا غيرَ آثِم، يتحركُ مارا بأجزائه يجمعُ الأخبارَ ويُسكن الحياةَ نفسَه، حياة طافية فوق الدماء تتدفق تحت نهرين يجريان في الجنة فأصغى لدفقهما بداخله سادا أذنيه بإصبعين، حتى استيقظت عاقلته الأولى فأشعلت مواقِدَ النار بأحشائه وقلبه فأنار كالقنديل واحترقت بها أهواؤه ما ظهر منها وما كان منها خافيا، وقتها بلغ الأربعين وغدت ملذاتُ الحياة لديه أقلَّ شأنا مما مضى إلى أن تقلّبت على جنبيها بمرح تلك الأنثى التي سكنت قلبه مع الإيمان، وتلألأت ضحكتها منتعشةً تحت الشمس تهزلا القطرات على العشب المرويّ حديثا فاهتزَّ البستان واهتزَّ قلبُه.. كما اهتزَّ القنديلُ القديم في جوفِهِ.
تغلغلت الضحكة بسرعة كأنما الماءُ يتخلل التربة الخصبة ولم يشغل نفسه بالأوراد ولا بأعمال المزرعة واطمأن إلى أعوام العبادةِ وركنَ إلى القوة التي اكتسبها، وفي حقيقة الأمر كانت هناك في نفسه رغبةً بريئة ابتذرتها الطبيعةُ الخلابة فطوَّقها الشيطانُ وأحاطَ بها فصارت الحياةُ صدىً بين الثلاثة. تغذَّت الرغبةُ الدقيقة بضحكتها ثم أنبتت والشيطانُ رعاها حتى أصبحت برعما أحمرَ شديدَ النضارة.
تجوّلت الهيفاءُ في البستان بين الفينة والفينة وتعوّدَ الشيطانُ التجوالَ بين عينيها وقلبها وجعلها تشعر برجلٍ ذي خطىً وئيدة يسيرُ في الأنحاء، وقد حقَّ أن النساءَ فتنةٌ للرجال فاستجابَ لحلاوةِ خطوها وسرعان ما أدركت أنه يراقبها فأخذت تزيد من ملاحتها وتهتم لحسنها، فقط لأن عينينِ تجولانِ في الجوار والفتياتُ يعشقن في أنفسهن الحسنَ والجمال.
انسجمَ الجولا الصباحي المشرق مع ثوبها الأبيض الذي راح يجري خلفها كالضباب المتعجّل، حتى انخفض إليها ثانية بعد أن توقفت فجأة أمام رجلٍ متعجب لفرط بساطتها فأحست أنه الرجلُ الذي أحبَّ ملاحظتها، ولاحظت أن له لحيةً مرتبة ولكن الفتاة أحبته لأخلاقٍ استعمرت ملامحه الهادئة ولمشاعِرَ انتبذت عينيه فاتقدت هناك بحريةٍ صارخة، ولو أنها لم تكن تلهث جراء الركض ولو أنه لم يكن واجما متعجبا لما حدقا في وجهيهما طويلا هكذا، قالَ لها في هدوء كنت مارا وسمعت صوتا فاقتربت فقالت وقد انتظمت أنفاسُها لا تبتئس!.. فنحن المارون.. ومن منا سيبقى؟ أعجبه كلامها ولامس فيه مشابهةً له وفاجأه تنوعُها فهي تمرح وتعنفُ في اللعب وتعشقُ نفسَها وكذلك هي تتحدث بالحكمةِ وتتأمل الحياةَ وحدَها، وقبل أن يبتعدا سألها مناديا ما اسمكِ فأجابت كريستال وما اسمُك أنت؟- فليكن إذاً اسمي بريق، وارتحلَ الاثنان في الأرض عائديّنِ إلى الديار رغم أنهما أحسّا أن تلك البقعةَ في البستان هي الدار وربما أنهما لم يغادراها بعدُ وبقيا يتكلمانِ فيها حتى الآن كما في الخيال.
تعلّق البستانُ بهما وتكيّف العشبُ على طريقِ سيرهما وتحدث كلٌّ منهما إلى الآخر حتى تحوّلَ الصمتُ بينهما حديثا طويلا تناولا أطرافَه اللّدنة واقتربا فيه إلى الحدِّ الذي سمعا أنفاسَ بعضهما بوضوح تام، اقتربا إلى الحدِّ الذي شق على التراجعِ أن يحدث لحظتها، كانت اللحظةُ طاغية والعاطفةُ مائجة ودنا كلٌّ من الآخر شاطئا أخضر لا يمكن لسفينة أن ترغب عنه والبحرُ من خلفها صحراءُ مائيةٌ خالية، ثم كادت أن ترسوَ السفينة وتُنزلَ مرساتها حتى أنها قد رفعت أشرعتها جميعا واستقرت حركتها تماما وقبل أن تلامس المرساةُ سطح الماء غابَ الذهنُ برهةً وتذكرَ كلاهما رب السماءِ المفتوحة حولهما، أرادت أن تمتنع الفتاة والوقت لم يعد يسمح بالتفكير، وأحسَ هو بعتابٍ بعيد جرته إليه عبادةُ السنين ولكنّ كلَّ شيءٍ تضاءلَ في برهة وحضر الذهنُ مجددا قويا في واقعٍ متاح أبعدَ ما يكون عن المصادفة، وبين أنفاسهما المتقطعة تلاعبَ الشيطانُ بهما واختلطت أنفاسه بجوِّهما ثم ضاقَ الفراغُ حتى اختفى فانصرفَ الشيطان عنهما فلا أقوى من هذا بشرٌ قط، ولكن المعجزة بلغتِ الحقيقة في وقتٍ عصيب فتخبّطَ الشيطانُ هائما في الغاب يبكي غروره الذي تحطم.