الثقافي
ضجر باسمة العنزي لايزال مفتوحًا
تاريخ النشر : السبت ٢١ يناير ٢٠١٢
باسمة العنزي قلم إبداعي في الحراك الثقافي الكويتي، لم أعرفها شخصيا، بل كنت أقرأ لها بين الحين والآخر على صفحات الفضاء الإلكتروني، ولم أكن أعرفها عندما ذكرت اسمها في الأمسية السردية التي أقيمت ضمن مهرجان القرين الثقافي، بوصفها من الأقلام الجميلة في الكتابة إلا بعد ما رفعت يدها معرفة بنفسها، ولكني عرفتها أنها على طريق الكتابة السردية التي تتجه نحو كتابة الفكرة ضمن سياق لغوي يتعالق معه البعد الرمزي، حيث جاء هذا في مجموعتها القصصية المعنونة بـــ: يغلق الباب على ضجر، الصادرة عن دار الفارابي في طبعتها الأولى عام 2010، وهي المجموعة الثالثة بعد مجموعتها الأشياء عام 98م، وحياة صغيرة خالية من الأحداث عام .2007
وقد استهلت الكاتبة المجموعة بنص شعري لكوليردج لتهيئ القارئ لما سيقرؤه من قصص، حيث الارتباط واضح بين النص الذي يأخذك إلى متاهات المكان، فإن النصوص هي أيضًا تأخذك إلى المكان ولكن بشكل آخر، ليس مكان السفينة التي هي أرض البحارة، بل مكان البيوت التي يقطنها الناس، البيوت الدامعة، التي تطوي ساعات أهلها ليدخلوا التاريخ، هذا المكان المتسع للإنسان الحامل تعبه وحزنه وشقاءه، الإنسان الرافع كيانه نحو حلم قادم، وأمل ينتظره، الإنسان الراغب في اليوم الذي سيكون أفضل من أمسه، يلج المكان ليداعب نفسه العطشى لشدة الأزمات وتقلبات الحياة، برسم صورة للحياة بحب واقتدار، هو المكان الذي هندسته القاصة بفنية جمالية، وبلغة سردية تشعل فيك علامات التلاقي بين البشر في علاقات حميمة أو نحو سلوكات تربى عليها الجيل لأنه لم ير سعادته إلا في التجمل الكاذب.
توزعت المجموعة القصصية إلى اثنتي عشرة قصة قصيرة، تعمدت القاصة أن تضع لكل نص قصصي ثلاثة عناوين، تاركة للقارئ حرية التحليل والتأويل في طبيعة هذه العناوين والعلاقة بينها، وكيفية الاختيار التي بنت عليها القاصة نصها القصصي هذا أو ذاك، عناوين لمنازل منطقة معينة، وبأرقام هذه المنازل، بدءًا بمنزل رقم 20 وانتهاء بمنزل رقم 31، وكل منزل له قصة معينة قد ترتبط بعض الشيء بغيرها من القصص بحكم جغرافية المكان، وتختلف بحكم تركيبة الشخصيات، وسيكولوجيتها، ولو تركنا تلك الأرقام التي هي عبارة عن العنوان الرسمي للبيت فإن العناوين الأخرى تحمل بين طياتها من الدلالات التأويلية لما لها من خيط رفيع يصل بعضها بعضا، حيث جنية فرج، التي تحمل المتناقض في تركب الجمل منطقيا، لأن تراثنا لا يؤكد وجود جنية وفي الوقت نفسه تحمل علامات الفرح، لكن النص يكسر هذا الاعتقاد بتحويل الخوف إلى اطمئنان، والحزن الذي كانت تعانيه حصة إلى فرح في عيون الآخرين، هكذا كان عالم النص في المنزل الأول يرسم عالم أسرة بسيطة فقد الأم والابن، وظلت البنت والأب، البنت التي كان محل عطف الآخرين نهارًا، هي محل سعادتهم ليلا من دون أن يعلموا، تلبسهم السعادة بكل الطرائق والسبل، وتدخلهم عالم الدهشة والاستغراب مما يحصلون عليه كأنه حلم منام لا يتحقق إلا ليلاً.
إنها قصة تشير إلى أن الإنسان قد لا يستطيع أن يؤقلم حياته وفق طبيعة المجتمع، إلا من خلال الخوارق وما فوق عادة التصور، ولكي يحصل على تحقيق الأحلام يكون عالم المتخيل والمستور هو المنقذ له.
وكلما توغلت في دهاليز النصوص اكتشفت قدرة القاصة على نسج العلاقات الجمالية في الربط بين الفكرة التي تنشدها، وبين اللغة التي تشيد بها عالمها القصصي، وبين المتخيل الذي تزين به جمالية العلاقة بين الفكرة واللغة، لذلك تجد البعد النفسي واضحًا في تركيب الشخصيات كلها تقريبًا وإن كان بشكل متفاوت، وليس تركيبًا عاديٌّا أو حالة نفسية طبيعية كما هي عند البشر، وإنما حالات نفسية معقدة في بنائها وتركيبها، وتفكير هذه الشخصية، وإن لجأت إلى العجائبي، فشخصية عائشة التي تعاني الوحدة والألم وفقدان الصوت بعد الحريق الذي شب في المنزل، وشخصية غنام بوسند الذي يعاني العجزين الجسدي والنفسي بعد ما كان قادرًا على فعل كل شيء، والزوجة التي كانت تعاني سطوة زوجها، وبتول التي أدخلت الأعراف والعادات بأن العقم فيها وليس في زوجها، وحالة الانتظار التي لعبت بنفسية عيد معتوق، وما يؤكد العلامة النفسية في النصوص ما ذكرته القاصة في قصة منزل رقم 25، حين أودت قسوة الحياة بأبي ناصر ليكون أحد نزلاء مستشفى الطب النفسي، وقس على ذلك الكثير، مما يشكل لنا أن النصوص ليست معنية بالمكان فحسب، بل بالإنسان المعذب في الحياة، الإنسان الباحث عن لقمة العيش، الحالم بيوم جميل.
وإذا كانت السمة الغالبة في كتابة المرأة الإبداعية سردًا تناول ثيمة المرأة لتكون هي المسحة الكبرى في النصوص كلها، نجد القاصة خرجت عن هذا، حيث شخصياتها المعذبة، أو التي رسمتها لتكون رئيسة في العمل من الجنسين، ومن أعمار مختلفة، ألم تكن حصة فتاة، وبتول امرأة متزوجة، وبوسند رجلا كبيرا في السن، وبوعبث الشاب الذي تحرك في النص منذ ان كان عمره خمس عشرة سنة؟ مما يشير إلى أن القاصة لم تكن مهتمة بجانب «الجنسوية» بقدر ما هي مهتمة بقضية أفراد يعيشون في مجتمع ما، وجمعتهم منطقة سكنية واحدة، وتريد من خلال هذه المنطقة السكنية أن تسلط الضوء على بعض الأمراض الاجتماعية، وعلى كيفية حماية بعضهم بعضا من العوز، على أهمية الوصول إلى تحقيق الحلم بطرائق سليمة وإن كان المجتمع لا يخلو من التسلق والمحاباة، من دون أن تترك تطور الحياة ومسيرتها نحو الوسائط الاتصالية الحديثة.
وأعتقد أن القاصة في مجموعتها هذه أسهمت في تقديم عمل مميز في لغته وسرديته وتلك الأفكار التي نثرتها بين القصص، مركزة في الآثار السلبية والأمراض الاجتماعية في المجتمع، مسلطة الضوء عليها لما لديها من فنيةفي السرد، وتقنية في التعامل مع مكونات القص، فالمجموعة بحاجة إلى دراسة في سيميائية العناوين، وفي لغة القص التي تأخذك بعض الأحيان إلى اللغة الشعرية، وإلى طبيعة تركيب النفس البشرية في سياق التحليل النفسي، لذا أقول إننا نعتز بوجود قاصة مثل باسمة العنزي في مشهدنا السردي الخليجي.