وداعا قداسة البابا
 تاريخ النشر : الثلاثاء ٢٤ أبريل ٢٠١٢
بقلم: القمص ميساك الأنبا بيشوى
ودعت كنيستنا المصرية القبطية الأرثوذكسية إلى السماء حبرا عظيما وأبا جليلا وراعيا أمينا هو قداسة البابا المعظم الأنبا شنودة الثالث بابا الأسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية الذي انتقل إلى السماء بعد حياة حافلة بالبذل والعطاء.
ولا يستطيع القلم أن يعبر عن فضائل وإنجازات هذا الرجل العظيم طيلة أيام حياته وخدمته لأولاده في مصر بل وفي جميع أنحاء العالم.
ونذكر هنا بعضا من فضائله العظيمة وإنجازاته المتميزة على سبيل المثال لا الحصر:
كان البابا شنودة رجلا وطنيا رائعا بكل ما تحمل هذه الكلمات من معنى. فكان قلبه ينبض بمصر، ويسري حبها في عروقه. فهو صاحب المقولة الشهيرة «إن مصر ليست وطنا نعيش فيه وإنما وطن يعيش فينا». فقد كان يحب ويعشق تراب مصر ويكن لها ولكل من يعيش على أرضها كل الحب والتقدير. ولا يمكن أن ننسى موقفه الوطني الرائع من قضية القدس إذ منع الأقباط من زيارة القدس، وأكد أننا لن نذهب إلى القدس إلا وأيدينا في أيدي إخوتنا المسلمين.
كان البابا شنودة ينادى بالمحبة والاحترام للجميع بدون تفريق, ويعيش في علاقة سامية من الحب والإخلاص ليس مع أولاده المسيحيين فقط وإنما مع كل المصريين من دون تفريق بين مسلم ومسيحي. ولا أستطيع هنا أن أحصد أصدقاءه ومحبيه من إخوتنا المسلمين من قادة الفكر والثقافة والفن والعلم بل وأيضا من علماء وشيوخ الأزهر الأجلاء الذين شهدوا له بكلمات رائعة في حياته وعند وفاته أيضا.
كان البابا شنودة ينادي بمبدأ التسامح والصفح والغفران للكل. فكم تعرض هو شخصيا لهجمات شرسة من نفوس ضعيفة حاقده, وكان يقابلها بهدوء وسعة صدر، بل كان يصلي من أجل هؤلاء, ويطلب لهم الغفران من الله. كان ينسى سريعا كل الإساءات والتطاولات على شخصه, وحينما كانوا يرجعون إليه نادمين لم يكن يعاتب ولا يلوم. وإنما كان يقابلهم بابتسامته الرقيقة وقلبه الحاني وأبوته الرائعة التي يندر أن نجد مثلها.
كان البابا شنودة صمام الأمن والأمان بين أبناء الأمة الواحدة, وفي توطيد العلاقة بينهم فهو أول من بدأ تقليدا رائعا بدعوة كل القيادات السياسية والفكرية والثقافية في مصر إلى تناول إفطار رمضان في المقر البابوي, وصار هذا التقليد معمولا به طيلة ٤٠ عاما أمضاها قداسته في البطريركية. وكان يستقبل المدعوين بالمقر البابوي بنفسه في حفاوة وتقدير بالغين. ولم يكن ذلك من باب المجاملة وإنما من صميم إيمانه وحرصه على حب الجميع واحترام الكل وتوطيد علاقة الحب والمواطنة بين جميع أبناء الوطن الواحد.
كان البابا شنودة يحمل في داخله قلب طفل صغير في بساطته وبراءته فكان يداعب الأطفال ويحتضنهم في حب وحنان أبوي رائع. ولكنه في الوقت نفسه كان شجاعا وقويا في الحق لا يخشى لومة لائم ولاسيما في الأمور التي تمس العقيدة والإيمان المسيحي. وله في ذلك مواقف كثيرة لا نستطيع حصرها.
كان البابا شنوده على المستوى الفكري هو المعلم, والإنسان, والعالم, والمفكر, والأديب, والشاعر المرهف الحس والمشاعر. وله مئات المؤلفات الأدبية والشعرية الراقية ليس على المستوى الروحي فقط إنما على كل المستويات الفكرية المختلفة.
كان البابا شنوده مثالا في خدمة الفقراء والمحتاجين. فخصص لهم اجتماعا أسبوعيا يسمى « لجنة البر» كان يحضره بنفسه, يجلس معهم ويدرس أحوالهم بكل تأن ورفق وحنان وعطف أبوي موفيا كل احتياجاتهم بسخاء من دون أن يجرح كرامتهم. وكم رأيناهم يخرجون من عنده فرحين مهللين يدعون له بالصحة والعمر الطويل.
كان البابا شنودة راهبا زاهدا ناسكا بكل ما تحمله هذه الكلمات من معان. فلم يكن يهتم في حياته بمأكل أو مشرب أو ملبس كاهتمام أهل العالم بل كان يكتفي بأقل القليل منها. وكان ينتهز أي فرصة لكي يذهب إلى البرية (الدير) التي أحبها لكي يختلي بالرب ويمضي وقتا في التأمل والصلاة. وكان هذا سر قوته وعظمته.
فوق كل هذا اهتم قداسة البابا الراحل برعاية أولاده روحيا في المهجر ودول الخليج اهتماما بالغا وأسس لهم الكنائس ورسم لهم الأساقفة والكهنة لرعايتهم وتوطيد علاقتهم بالله وبالكنيسة الأم في مصر, ليكونوا خير سفراء عن كنيستهم وعن مصر في البلاد التي يعيشون فيها. ولعل كنيستنا هنا في مملكة البحرين خير شاهد على هذا الاهتمام من قداسته. ولا يفوتنا في هذا الصدد أن نتقدم بالشكر والامتنان والعرفان إلى حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى, وإلى صاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة رئيس الوزراء الموقر, وإلى صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولى العهد الأمين، على سماحتهم ورعايتهم للجالية القبطية الأرثوذكسية في مملكة البحرين, والسماح لنا بإقامة الشعائر الدينية بكل حرية ويسر. سائلين الله أن يحفظهم ويوفق خطاهم لمجد ورفعة مملكة البحرين الحبيبة وشعبها الكريم.
وأخيرا وداعا لهذا البابا العظيم واثقين أنه وإن رحل عنا بالجسد، إنما هو يعيش بيننا بمبادئه وتعاليمه السامية التي غرسها في قلوب أبنائه لينقلوها بعده من جيل إلى جيل.
كاهن كنيسة القديسة مريم العذراء والأنبا رويس للأقباط الأرثوذكس بمملكة البحرين
.