الجريدة اليومية الأولى في البحرين


قضايا و آراء


المواقف العربية والذاكرة التاريخية المنقسمة

تاريخ النشر : الثلاثاء ٢٤ أبريل ٢٠١٢



تُعَد الذاكرة التاريخية الموجّه الأساس لصناعة المواقف والقرارات، والمجتمع الذي يحتفظ بذاكرة تاريخية منقسمة فإنه بالضرورة سينقسم في مواقفه وقراراته.
تاريخ المنطقة العربية حافل بالأحداث الكبيرة التي صاغت وتصوغ جانبا مهما من هوية العرب وثقافتهم، ولو أردنا أن نقسم تلك الأحداث تقسيما جغرافيا فإنها ستتمايز بشكل واضح ما بين غرب البحر الأحمر وشرقه، ففي الطرف الآسيوي كان الصراع في الغالب صراعا عقديا ثقافيا وإن اتخذ أشكالا سياسية أو اقتصادية، فبعد القادسية وسقوط الإمبراطورية الفارسية نشبت معارك أشد ضراوة وأكثر خطورة استهدفت الخلافة والثقافة والنسيج الاجتماعي، فكانت الفتنة الكبرى التي راح ضحيتها ثلاثة من الخلفاء الراشدين «عمر وعثمان وعلي» وراح ضحيتها أيضا عدد كبير من رموز الصحابة كطلحة والزبير وعمار والحسين ؟ رضي الله عنهم أجمعين ؟ وكانت الفرق المنحرفة والباطنية مثل الخوارج والسبئية والقدرية..الخ التي تناولت ثوابت الإسلام ومصادره الأولى بالطعن والتشكيك، ووصلت الجرأة إلى أن يؤلف كتاب واسع بعنوان (فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب)، أما الطعن في السنة ورواتها من الصحابة إلى آخر المحدثين المعروفين فهذا أمر شائع ومنتشر.
وقد وصل الأمر إلى قتل الحجيج وسرقة الحجر الأسود من قبل القرامطة، وتحالف ابن العلقمي مع المغول الذي أدى إلى سقوط بغداد واستسلامها لهولاكو، وما حصل لبغداد اليوم ليس بعيدا عما حصل لها بالأمس.
لقد شخص الدكتور علي شريعتي طبيعة المعركة بعبارات صريحة ومركزة: إن مرتكزات الإسلام الأصيلة كالقرآن والنبوة والكعبة والمسجد.. كلها قد سقطت بيد العدو.. فلابد من البحث عن مرتكزات جديدة، وفي عنوان صارخ (كربلاء أو الكعبة) يدعو شريعتي كل المؤمنين إلى ترك الطواف بالكعبة والتوجه إلى الكعبة الحقيقية «قبر الحسين»، انظر كتابه التشيع مسؤولية ص .86
أما الطرف الإفريقي من مصر والسودان إلى المغرب وموريتانيا فإن ذاكرتهم التاريخية مختلفة تماما، فالصراع بعنوانه الأكبر هو صراع مع الغرب الصليبي أو الاستعماري فمن طارق بن زياد ويوسف بن تاشفين إلى عمر المختار وعبدالقادر الجزائري صفحات متواصلة من معارك ذات لون واحد تقريبا، حتى التحدي الطائفي هو ليس بعيدا تماما عن ذاك الصراع «الأقباط» نموذجا.
ربما حصل بعض التداخل والتشابه في بعض النقاط عبر التاريخ الطويل مثل دخول الصليبيين إلى بلاد الشام، وفي المقابل قيام الدولة الفاطمية في شمال افريقيا، وقد كانت تجربة صلاح الدين تجربة مركبة فقد خاض المعركتين في وقت واحد وبرؤية شمولية واعية ومتوازنة، ثم جاء العثمانيون ليكرروا التجربة ذاتها فقد كانت جيوشهم تتنقل بين مقاتلة الصليبيين في قلب أوروبا وبين مقاتلة الصفويين على تخوم بغداد، ولايزال أكبر شوارع اسطنبول (بغداد جادة) يخلّد ذكرى استقبال الجيش العثماني بعد تحريره لبغداد وطرد الجيش الصفوي، وهنا لابد من تسجيل شهادة الدكتور شريعتي وهي شهادة بالغة الأهمية حيث يقول: (من القضايا الواضحة وجود نحو ارتباط بين الصفوية والمسيحية حيث تضامنت الاثنتان لمواجهة الامبراطورية الإسلامية العظمى التي كان لها حضور فاعل على الصعيد الدولي إبان الحكم العثماني وشكلت خطرا جديا على أوروبا...) راجع التشيع العلوي والتشيع الصفوي ص .206 لكن هذه التداخلات لم تتغلب على حالة الانقسام في الذاكرة التاريخية، حيث بقي الشطر الافريقي لا ينظر إلى كل هذه المعارك «الشرقية»وبكل أبعادها إلا باعتبارها فتنا داخلية وأخطاء يمكن تجاوزها ولملمتها، والمهم هو تجميع الجهود لمواجهة الخطر القادم من الغرب، وقد ساعد على تعضيد هذه الرؤية عدة عوامل أهمها: سقوط الخلافة الإسلامية هذه المرة على يد الغرب وليس على يد الشرق كما حصل في الخلافة العباسية، وما تبعه من هيمنة الاستعمار الغربي على أغلب أصقاع العالم العربي والإسلامي، وظهور الخطر الصهيوني واحتلال فلسطين الذي مثل جرحا غائرا في كرامة الإنسان العربي فضلا عن المسلمين في العالم، لهذه المعطيات أو التحديات تم تجاهل الخسائر الفادحة في الطرف الشرقي مثل ضياع الأحواز وعربستان التي تزيد مساحتها بأضعاف كثيرة على فلسطين، وتبع هذا تهديد مباشر لدول الخليج العربي «والبحرين بشكل خاص»واقتناص الجزر العربية (طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبوموسى)، ثم هيمنة عسكرية واضحة على لبنان من خلال حزب الله، والتجربة اللبنانية تتكرر الآن في اليمن عن طريق مليشيا «الحوثيين» التي تعد اليوم أكبر مجموعة مسلحة في اليمن، وأخيرا سقوط العراق بكل امكاناته وثرواته بيد المشروع الصفوي، وهذا يعني أن الطرف العربي الآسيوي قد أصبح كله في مرمى المشروع الصفوي، وأن أحلام الصفويين في السيطرة على مكة والمدينة ومنابع النفط العربي لم تعد مستحيلة ولا بعيدة، ولتحليل هذا الصورة بعمقها التاريخي نقول: إن سقوط بغداد على يد هولاكو قد أفقد بغداد مكانتها الريادية وإلى اليوم، فالرموز العلمية الكبيرة التي خرّجتها المدارس البغدادية أيام المنصور والرشيد والمأمون والمعتصم لم تتكرر أبدا، وهذا يعني توقفا واضحا في الإنتاج المعرفي، بخلاف مصر التي تمكنت من الاحتفاظ بالموقع الريادي ولكن وفق رؤيتها التاريخية، وأصبح العراق والشام واليمن وربما الخليج أيضا يقلد الحالة المصرية، فمثلا بعد سقوط الخلافة ظهرت مشاريع مختلفة وربما متناقضة للنهوض بواقع الأمة، وكان منها ما هو إسلامي كالإخوان المسلمين، ومنها ما هو قومي كالحركة الناصرية، أما الإخوان فقد مارسوا التهدئة مع التحدي الشرقي وربما فتحوا الأبواب للتقريب أو التعاون مما أسهم في إضعاف الذاكرة التاريخية لهذه الشعوب، وكان من مخرجات هذه التجربة التحالف المعلن بين حماس وحزب الله وإيران الذي توج بمشاركة اسماعيل هنية في احتفالات الثورة الإيرانية رغم الجراح المريرة في سوريا والعراق، وكذلك تحالف فتحي يكن وجبهة العمل الإسلامي اللبنانية مع حسن نصر الله، أما التيار القومي الذي كان مشدودا للقضية المركزية فلسطين فكان يكفي إيران أن تقدم بعض المساعدات والشعارات لهذه القضية لتستهوي هذا التيار، وقد حاول صدام حسين أن يقود حركة تصحيحية في التيار القومي من خلال تبنيه مشروعا مركبا يجمع بين الذاكرتين ليواجه الأخطار المركبة لكنه كان أقل ذكاء فوقع في الفخاخ وأهدر هذه التجربة ودفع الثمن غاليا، وفي تقديري فإن هناك الكثير في التجربة الصدّامية لم يدرس بعدُ، وخاصة فيما يتعلق بالتحالف الإيراني الأمريكي لإسقاطه.
لقد كان العراقيون أكثر خبرة، وأقدر على التعامل مع هذا التحدي، وهم يختزنون في مذكراتهم آلاف القصص والحوادث التفصيلية، لكن هذه المذكرات تعرضت لما يشبه المحو من خلال هيمنة التيارات العلمانية التي كانت تنأى بنفسها عن التفاسير الدينية للتاريخ بل تعتبرها تحديا لوجودها، وحين هبّت رياح الصحوة الإسلامية لم تكن هذه المرة صحوة ذاتية بل كانت من خلال رسائل الإمام البنا ومعالم في الطريق والظلال لسيد قطب..الخ التي خلت تماما من أي إشارة لتلك الذاكرة التي يتميز بها العراقيون بشكل خاص والطرف العربي الآسيوي بشكل عام، وقد أسهم في ترسيخ هذه الثقافة الإخوانية الوافدة ضعف المؤسسات العلمية والشرعية العراقية مثل المدرسة الآصفية في الفلوجة والمدرسة الأحمدية في سامراء التي كان لها الدور الأكبر في الحفاظ على هوية العراق العربية الإسلامية، مما اضطر كثيرا من طلبة العلم العراقيين لإكمال دراساتهم في الأزهر الشريف والجامعات المصرية الأخرى، ولم يتبق في المنطقة من يمكن أن يسهم في مقاومة عوامل النسيان أو المحو هذه إلا المدارس السعودية، لكن السعودية لم تظهر حماسة في نشر ثقافتها إلا بنطاق محدود مع ما تمتلكه من عوامل التأثير والتمدد.
في هذه الأجواء سادت مقولات «الحاكمية» و«الحل الإسلامي» لمواجهة الأنظمة الحاكمة، وكان هذا متزامنا مع غض الطرف عن المشروع الذي يستهدف أساس عقيدتنا وهويتنا بل ربما التقاه في أدبيات «الثورة» ومحاربة «الاستكبار العالمي» وللأمانة فقد اكتشف بعض الإسلاميين حجم هذه الخدعة كالشيخ سعيد حوى سابقا والشيخ القرضاوي لاحقا، لكن هذه لم تكن سوى صرخة في واد عميق من النسيان سرعان ما تلاشت واختفت.
اليوم ربما بات الأمر مهيأ لترميم شيء من تلك الذاكرة بعد أن أفاق العرب في الشرق والغرب على صدمة الأحداث الأخيرة في سوريا، ففي سوريا تعقدت الألغاز ولم يتمكن العرب وفق رؤيتهم الافريقية من حلها، فما الذي يجمع النظام البعثي مع ولاية الفقيه؟ وما الذي يجمع «مقاومة» حزب الله مع الحكومة العراقية التي نصبها الأمريكان؟ نعم إننا كعراقيين نتألم حين نرى أن سقوط بغداد الأخير على يد الحلف الصليبي الصفوي لم يثر حتى دواعي التفكر في دراسة طبيعة الصراع وخلفياته التاريخية العميقة، لكننا اليوم نأمل أن تهز هذه الصدمات تلك العقول التي اعتادت التفكير الأحادي ووفق أحكام مسبقة لم تخضع للفحص والاختبار، ليلتقي الجميع في مشروع واحد وبنظرية مركبة لا تستثني صورة ما في فضاء المشهد الكبير الزاخر بالتحديات.
إننا لا نريد هنا أن نغلب ثقافة على أخرى لكننا نطمح إلى أن تستفيد كل ثقافة من شقيقتها، وربما يأتي اليوم الذي نتمكن فيه من دمج الثقافتين أو الذاكرتين في ملف واحد وهذه هي الخطوة الأكثر إلحاحا لتوحيد مواقفنا ومشاعرنا وخاصة بعد ثورات الربيع الواسعة وإزالة الحواجز المعوقة من التواصل العربي العربي، ولا شك أن مصر اليوم أقدر على ردم هذه الفجوة وقيادة العالم العربي لمواجهة التحديات المعقدة والمتنوعة، وربما يمثل صعود التيار السلفي إلى جنب التيار الإخواني فرصة تاريخية لصناعة النظرية المتوازنة والمركبة.
* كاتب وجامعي عراقي